سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أخطار ترمبية

أن يتظاهر العلماء والبحّاثة؛ فهذا يعني أن ثمة أمراً جللاً. أن يخرج هؤلاء إلى الشوارع، في مئات المدن حول العالم، فإنما يدلل على خطورة بلغت حداً يصعب السكوت عنه. أن يكون الغاضبون وأصحاب الدعوة، هم علماء أميركيين يفترض أنهم من بين الأكثر دلالاً؛ فهذا يشير إلى تحولات عميقة ومفصلية.
فعل الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ما لم يجرؤ عليه غيره. انخفضت ميزانية البحث العلمي، في عهده إلى حدودها الدنيا. تهاوى الإنفاق على العلوم، إلى ما نسبته نصف ما كان عليه في ستينات القرن الماضي. البحاثة في أميركا يقرعون ناقوس الخطر، ويحذرون من أن بلادهم التي بنت مجدها الابتكاري، على أكتاف المخترعين المهاجرين، لن تكون ذاتها حين توصد الأبواب دونهم. إعطاء الأولوية للتسلح ومنح الدفاع 45 مليار دولار إضافية، كل سنة، تؤخذ من حساب المشروعات العلمية والبيئية والفنية؛ هذا ما يجعل الخوف يسكن نفوس أصحاب العقول النيرة.
لا يريد دونالد ترمب أن يعترف حتى بفكرة «التغير المناخي». لا يرى فيها سوى «خدعة صينية» مفبركة. سخر الرجل كثيراً من المتحدثين عن سبل المعالجة، ومن بعض المصطلحات التي يستخدمها المتخصصون. قمة الهزء أن يعيّن على رأس «وكالة حماية البيئة»، سكوت برويت الذي لا يعترف هو نفسه بأن «التغير المناخي» أمر جدي يستحق التوقف عنده. ليس غريباً بعد ذلك أن تنخفض الأموال المخصصة للوكالة 31 في المائة، وتفقد ربع قوتها العاملة.
هذا غيض من فيض مكرمات الرئيس الأميركي في المجال العلمي الذي ألغى ثلث ميزانية المؤسسات الطبية، وجزءاً ليس باليسير من أموال أبحاث التطوير. توقيع الرئيس للأمر التنفيذي الذي يطلق عليه اسم «استقلال الطاقة» قضى على كل الإجراءات التي اتخذها سلفه باراك أوباما في مجال «الطاقة النظيفة» والحد من انبعاثات غاز الميثان. لا، بل وعد ترمب بالعودة إلى الفحم الحجري، وهو ما يبدو أن دونه عقبات كثيرة، ويسعى جاهداً للخروج من «اتفاقية باريس المناخية»، معتقداً أن هذه «الخزعبلات» البيئية، تكاليفها المالية لا طائل تحتها.
لم يعد البحث العلمي أولوية على سلم الكثير من الدول الغربية. كانت أميركا ملجأ للهاربين الأوروبيين من قحط بلدانهم. أن يقطع ترمب خيط الأمل هو ما جعل الكيل يطفح ويفيض. بالتزامن مع «يوم الأرض» - المفارقة أن أول من دعا إلى الاحتفال به أميركي أراد للبيئة أن تكون عنواناً في بلاده - اختار العلماء أن يقولوا كلمتهم في وجه السلطات التي ما عاد البحث يشغل قادتها.
لم يقل المرشحون للرئاسة الفرنسية المشغولون بمكافحة الإرهاب وإرضاء خواطر العاطلين عن العمل، ما يمكن أن يطمئن الباحثين عن علاجات جديدة للسرطان أو السكري أو ألزهايمر. ترمب لا يؤمن حتى بقيمة اللقاحات التي أنقذت الملايين من الموت منذ اختراعها. ثمة لامبالاة غريبة تدل على تدني مستوى الفكر السياسي الأوروبي وصلت عدواها إلى أميركا. لم نعد نسمع إلا عن رئيس الوزراء الكندي، الإنساني النزعة، جوستن ترودو يعنى بالهواء والماء والزرع والضرع.
هناك من بات يرى في ترمب خطراً على الحيوان والنبات لشدة استهتاره، ويتهمونه بممارسة «الإرهاب البيئي».
ما يخشاه البحاثة في العمق، هو التراجع المستمر في احترام العلوم وقيمة المعرفة، والاحتكام إلى الموضوعية. هذا التدهور المتنامي يقود إلى استبدال الآراء الخاضعة للأهواء والتمنيات، وبطبيعة الحال، المعتقدات الآيديولوجية السّامة، بالمعارف الدقيقة.
العناية بالعلوم بحثاً وتعليماً وتطويراً تتآكل تدريجياً. جاء ترمب لينكأ جرحاً طرياً. اتخذ الرئيس جملة قرارات قاصمة، يصعب ابتلاعها معاً. أسلوبه الكلامي، نكرانه حقائق علمية دامغة واعتبارها مجرد هرطقة وادعاءات لا تعتمد على أرض صلبة، أخاف كل البحاثة بمن فيهم العاملون في المجال الإنساني.
كيف لترمب أن يجمع بين رغبته في تقوية جيش أميركي يضبط العالم وحرمان الأبحاث والاكتشاف من الإمكانات المادية؟ كيف بدا له أن بمقدوره رفع مستوى الفرد إذا تعطلت مشروعات بحثية طبية وبيئية أساسية؟ من يضمن بقاء أميركا دولة اختراعات، وحاضنة غالبية الحاصلين على نوبل، كما هو الحال الآن، إذا انخفض بشكل كبير عدد الطلاب الأجانب الوافدين، الذين من بينهم يتم اصطياد نوابغ يبقون للعمل وخدمة الدولة التي احتضنتهم؟
في خطة الرئيس الأميركي من المتناقضات، ما لا يقنع أصحاب الرأي السديد. الفكر العلمي من أهم أعمدة الديمقراطية الحقيقية، من دونه لا مكان لقرارات عقلانية، بل لأهواء وأمزجة، ووجهات نظر تصيب مرة وتخيب مرات كثيرة.
غزت أميركا العالم بجيوشها أقل بكثير جداً، مما استعمرت قلوبهم وعقولهم بأفلامها، وكومبيوتراتها وتليفوناتها الخليوية الساحرة، وألعابها الإلكترونية المثيرة. خلبت أهل البسيطة بشهيتها لاحتضان المتفوقين وتحفيز ذكائهم، دون التمييز بين الجنسيات والألوان، وتحولت إلى فردوس يحلم به كل طامح. حين تكون الدول صاعدة، يتسع صدرها للوافدين وتغمرهم بوارف خيراتها، وعندما يتملكها الخوف تصبح بالكاد قادرة على هضم أبنائها.
ليس مخطئاً المؤرخ الأميركي في هارفارد دينس شرودر، حين يذكّر ترمب بأن التاريخ يشهد على إمبراطوريات كثيرة تآكلت لحظة ابتعدت عن العلم، وانهزمت عندما هزمته. دونالد ترمب يلعب بكرة النار وهو يتجاهل زبدة النخبة في بلاده. عندما يتحدث العلماء يتوجب أن يصغي إليهم بعناية، ولحظة يقررون النزول إلى الشارع بمئات الآلاف على الجميع أن يشعر بالخطر.