عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

درس في الانتهازية السياسية

الانتهازية، مثل الميكيافلية، صارت صفة ملازمة للعمل السياسي، لا يمكن أن تذكر إلا وتتبادر إلى الأذهان أولاً ساحة السياسة ومناوراتها. حتى إذا بحثت عن معنى الكلمة في القواميس ومحركات البحث ستجد أنها ترتبط أول ما ترتبط بالسياسة، على الرغم من أنها في معناها الواسع لا تقتصر على توصيف السياسة وحدها.
القرار المفاجئ الذي أعلنته رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بالدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة في الثامن من يونيو (حزيران) المقبل، كان نموذجاً صارخاً في ممارسة الانتهازية السياسية؛ ذلك أن ماي ظلت تكرر على مدى أشهر أنها ترفض إجراء انتخابات مبكرة، وقالت إنه لن تكون هناك انتخابات قبل الموعد المقرر في عام 2020. لكنها بعد أن تمعنت في وضع خصومها خصوصاً في حزب العمال المعارض، وقرأت اللحظة جيداً، ورأت أن استطلاعات الرأي العام تعطيها تقدماً بفارق 21 نقطة مئوية عن زعيم حزب العمال جيرمي كوربين، قررت وبضربة انتهازية مباغتة، الدعوة إلى انتخابات مبكرة.
ماي حاولت تغليف القرار بأنه لمصلحة بريطانيا في لحظة مصيرية، لأن البلد يخوض مفاوضات حساسة في إطار ترتيبات الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست). قالت إن البلد في حاجة إلى حكومة قوية، لتعزيز قدرتها التفاوضية، ودعت الناس للتصويت لحزب المحافظين قائلة إن كل صوت يمنح للحزب في الانتخابات المبكرة المقبلة سيجعلها وحكومتها في موقع أقوى في المفاوضات. وذهبت إلى أبعد من ذلك عندما قالت إن الخيار أمام الناس في هذه الانتخابات سيكون إما حكومة قوية تحت قيادتها تحمل تفويضاً شعبياً، أو حكومة ائتلافية ضعيفة مكونة من حزبي العمال والليبراليين الديمقراطيين.
الواقع أن تيريزا ماي رأت فرصة لتوجيه ضربة إلى خصومها داخل حزبها، أو من الأحزاب الأخرى خصوصاً حزب العمال الذي يمر بأسوأ مراحله في ظل قيادة زعيمه جيرمي كوربين الذي يفتقر إلى تأييد أغلبية كتلته البرلمانية، ولا يتمتع بقدرات كاريزمية تكسبه تأييد أغلبية الناخبين البريطانيين. فالانتخابات المقبلة قد تؤدي إلى إضعاف حزب العمال بشكل خطير في الفترة المقبلة، لكنها في الوقت ذاته قد تخدمه على المدى البعيد لأنها قد تطيح بزعامة كوربين وتفتح الطريق أمام قيادة جديدة أكثر كفاءة وفاعلية.
أما بالنسبة لحزب المحافظين فإن تيريزا ماي تريد ضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي تخطط لتعزيز مركزها والتخلص من تهديدات خصومها «المعتدلين» الذين يرفضون «خروجاً خشناً» من الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت ذاته تأمل في التخلص من ضغوط التيار المتشدد الذي كان يرى أنها وصلت إلى رئاسة الحكومة على ظهره وبفضل نجاحه في استفتاء البريكست.
من هذا المنطلق فإن قرار الانتخابات المبكرة قد يكون في نظر رئيسة الوزراء مغامرة محسوبة تتيح لها تعزيز وضعها الشخصي والحزبي والبرلماني، وفي الوقت ذاته تعزيز وضعها في مفاوضات (البريكست). لكن ربما كان الأهم من ذلك في نظرها أن الانتخابات تعطيها تفويضاً كانت تفتقده، وتريد أن ترد به على كل الذين يطعنون في مكانتها على أساس أنها لم تأتِ إلى رئاسة الوزراء بتفويض شعبي، بل بتفويض حزبي عقب استقالة رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون الذي تلقى ضربة قاسية في استفتاء البريكست.
المفارقة أن تجربة كاميرون ربما يجب أن تشعر تيريزا ماي بالقلق أيضاً؛ فالرجل كان واثقا من الفوز في استفتاء البريكست الذي دعا إليه العام الماضي، واستطلاعات الرأي وقتها كانت ترجح فوزاً مريحاً لمعسكر البقاء في منظومة الاتحاد الأوروبي. لكن الأمور سريعاً ما انقلبت ضده، وجاءت نتيجة الاستفتاء صاعقة لصالح معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي.
اليوم قد يرى معارضو البريكست أن انتخابات يونيو المقبل تمنحهم فرصة لمعاقبة السياسيين المؤيدين للبريكست، فيخلطون الأوراق لتيريزا ماي. لكن الأخطر من ذلك أن الانتخابات قد تصب المزيد من الزيت على النيران التي باتت تهدد وحدة بريطانيا لا سيما إذا عزز القوميون الاسكوتلنديون موقعهم، وكسبوا أراضي جديدة لمطلبهم بإجراء استفتاء جديد حول استقلال اسكوتلندا تعزيزاً لرغبتهم في بقاء بلدهم عضواً في الاتحاد الأوروبي بدل الخروج القسري مع بقية بريطانيا.
اسكوتلندا ليست وحدها التي تتململ، فقد أشارت استطلاعات للرأي إلى أن غالبية الناخبين في إقليم ويلز الذي كان قد صوت في استفتاء العام الماضي لصالح البريكست، أعادوا النظر في موقفهم وباتوا يؤيدون البقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي. أضف إلى ذلك أن الغالبية في إقليم آيرلندا الشمالية صوتت ضد البريكست وتعارض اليوم صيغة «الخروج الخشن» من أوروبا مطالبة بصيغة تضمن لها استمرار سياسة الحدود المفتوحة مع جمهورية آيرلندا.
مغامرة تيريزا ماي الانتهازية بالدعوة إلى انتخابات مبكرة قد يترتب عليها الكثير، لا على رئيسة الوزراء وحدها، بل على شكل وصيغة العلاقات المستقبلية مع أوروبا... والأهم على مستقبل المملكة المتحدة ووحدتها.