محمد فهد الحارثي
إعلامي سعودي
TT

إنها الكاميرا يا سيدي

إذا غابت الكاميرا، غاب الخبر. وأينما تكون الكاميرا، يكون الخبر. هذه ببساطة قصة تعاملنا مع الأحداث. التفاعل العالمي مع ضحايا السلاح الكيماوي في خان شيخون في سوريا كان واضحاً، سواء في ردود فعل الساسة أو حتى على المستوى الشعبي، وكان منظر الأطفال وهم ينازعون لحظاتهم الأخيرة ومحاولة إنقاذهم وحركات أجسادهم اللاإرادية تحت تأثير غاز السارين جارحة لكل المشاعر الإنسانية.
ومن رأى الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يتهدج بكلماته في مؤتمره الصحافي يلحظ تأثره، بل وانفعاله، وهو الذي اتخذ قراره بالعملية العسكرية ضد النظام السوري. والسؤال الذي يطرح نفسه: لو لم تكن الكاميرا في تلك اللحظة موجودة لرصد هذه المناظر، هل كان من الممكن أن تكون العملية العسكرية؟ وهل كان يمكن لهذا التفاعل العالمي أن يحدث، رغم أن ضحايا النظام السوري بمئات الألوف، وهو الذي استخدام السلاح الكيماوي أكثر من مرة في السابق؟
الصورة هي الحدث، والإعلاميون يركضون خلف الصورة؛ إنها المشاعر. إنها الدراما. لغة الصورة تختصر آلاف الكلمات، وتلمس الإنسان لأنها تجعله صاحب الحكم على هذا الفعل الذي يراه، بدل أن ينقله إليه شخص وكأنه يلقنه. هذا الإحساس يصنع التأثير. مقتل ألف شخص من دون صورة خبر عابر، ومقتل عشرة أشخاص بالصورة هو الخبر الأول. والصورة ليست فقط لأنها توثق الخبر، بل لأنها تخاطب المشاعر، وتحرك ملايين البشر في مظاهرات احتجاجية.
فالتاريخ يروي لنا تفاصيل مجزرة حماة التي شنها الرئيس السابق حافظ الأسد، وأودت بحياة عشرات الألوف في عملية عسكرية مروعة قصفت المدينة بالدبابات. غابت وقتها الكاميرا، فمرت الجريمة مع بعض الاحتجاجات والاستنكارات، ثم مضت. لكن من اكتوى بهذه المجزرة، لا يمكن أن ينسى. كل الوحشية الخيالية تسمعها من الأشخاص الذين عاصروا الحدث، ونجوا من هذه المجزرة. لكنه حدث ناقص، فما غاب عن الكاميرا، غاب عن المشاعر.
الصورة هي الخبر. وبشار الأسد رغم قتله لمئات الألوف من شعبه، فإن المجتمع الدولي تعامل معه بنوع من الأنانية واللامبالاة، واحتج بشدة حين رأى جريمة السلاح الكيماوي، وكأن العالم يقول: اقتل من شعبك ما شئت، لكن لا تستخدم السلاح الكيماوي.
الصورة هي التي تصرخ. من دونها القتلى مجرد أرقام. كم هو مقيت حين تذيع النشرة خبر مقتل عشرات، وربما مئات، في ذيل الأخبار، والسبب ببساطة هو «لا توجد صورة». وكم هو حجم القساوة حين تتنافس الأخبار في عدد الضحايا. والصورة المؤثرة فقط هي التي ترتب أولويات الأخبار.
والخطورة أن السياسيين أنفسهم أصبحوا أسرى للصورة، فهم مثلاً يعلمون عن المآسي والمعاناة التي تواجه اللاجئين السوريين، والقتلى بالآلاف في قوارب الموت التي تسعي للوصول إلى أوروبا. لكن بعد صورة الطفل السوري إيلان كردي الذي توفي غرقاً، وقذفته الأمواج إلى أحد الشواطئ التركية، انتفض العالم، وفتحت دول أوروبية أراضيها للاجئين السوريين، وتحركت منظمات حقوق الإنسان. وبقدر ما كانت الصورة مؤثرة، يبقى السؤال عالقاً: ماذا عن الآلاف الذين لم يحالفهم الحظ للموت على الشاطئ؟
يرصد لنا التاريخ أشهر صورة كان لها الفضل في إسدال الستار على واحدة من أقسى الحروب البشعة في العالم، وهي صورة الطفلة الفيتنامية كيم وان التي أطلق عليها لقب «طفلة النابالم». أظهرتها الصورة وهي تركض عارية تماماً، هاربة من الموت، تجسد الخوف من الجحيم. وهذه الصورة حازت على جائرة «بوليترز» في 1973، وكونت ردود الفعل عليها رأياً عالمياً قوياً لإيقاف الحرب الفيتنامية.
إنها الصورة التي تلامس المشاعر. ومع ثورة الاتصالات، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، أصبحت الصورة مؤثرة أكثر، فهي تنتشر خلال دقائق في كل أرجاء المعمورة. ويمكن أن تكون رأياً عاماً بسهولة، وتجبر سياسيين على اتخاذ قرارات، نتيجة تفاعل الرأي العام مع حدث الصورة. أصبحت للصورة سطوة أعلى، فهي متاحة لكل شخص لالتقاطها، ومتاحة أيضاً لكل شخص لنشرها.
السلاح الكيماوي استخدم في سوريا، والضحايا نحو 150 شخصاً، واهتم العالم. لكن في اليوم التالي، قامت طائرات النظام بغارات ذهب ضحيتها مزيد من المدنيين، تحولوا إلى مجرد خبر من بين الأخبار الثانوية، والسؤال: كم من كاميرا نحتاج، وكم من صورة مطلوبة، حتى يدرك العالم أن السوريين يتعرضون لمجزرة دائمة؟
انشغل العالم بصور جديدة لضحايا جدد، ففي مصر عمل إرهابي يستهدف مصلين في كنيستين وقتلى بالعشرات. وكانت الكاميرا، فكان الخبر. فأصبحت صور الضحايا والدماء هذه المرة من مصر هي القاسم المشترك في الأخبار. وفي ظل ضجيج الإرهاب، والذئاب المنفردة، والمنظمات المتطرفة، يستمر إرهاب الدولة، وتستمر المأساة السورية.
يقول النظام السوري: سنهاجمكم فقط إذا استخدمتم مرة أخرى السلاح الكيماوي. وربما أراد القول: سنهاجمكم إذا رصدت الكاميرا ضحايا جدداً للسلاح الكيماوي.
* إعلامي سعودي