فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مصائر «الأحقاد» لدى جيل ما بعد «الثورة»

بالصدفة، أرخيت سمعي إلى نقاشٍ بين فتاتين سوريتين على طاولةٍ مجاورةٍ بمقهى، الملامح توحي بأن عمرهما حين بدأت الأزمة لا يتجاوز الثلاث عشرة سنة، والحديث كلّه حول الحرب، ولا يخلو من نبراتٍ تشي بانبعاثٍ للهويّات القاتلة، وأوبة للأصول المذهبية، ووحشة شديدة من مشهد ليس له مثيل منذ سنين هتلر ولينين وستالين وصدام حسين، إحداهما تروي لزميلتها مشاهد مروّعة، ويبدو أنها رسمت وشماً في وجدانها، ونقشت على ذاكرتها صوراً لا تمحى.
هذه المحادثة تمثل جيلاً كاملاً، بفتيانه وفتياته، شبّ من الطفولة إلى الفتوّة بقنطرةٍ كان جسرها ملطّخاً بالدماء خلال السنوات الخمس الماضية، ولن يكون مسح آثارها سهلاً، إذ سيظلّ على الأقل مؤثراً بالأجيال الثلاثة القادمة، وهذا يذكّرنا بالدموية الكارثية التي حدثت بالحروب الكبرى، إذ شكّلت حالات الاغتصاب والقتل والتطهير العرقي أجيالاً من المقهورين الذين لن يكونوا خارج معادلة الانتقام، أو على الأقل التفكير به، أو الاكتفاء بالحسرة والندم.
إنه جيل الأقدار، يتكوّن ببطء على نارٍ من الارتكاسات الثقافية والدينية والسياسية.
شكّلت الحروب الأهلية الأوروبية الكارثية تاريخاً يحضر بوصفه عبرةً، وكانت مآلاتها اتجاه الحكماء لتأسيس أنظمة تتجاوز «حالة الطبيعة»، كما يعبّر توماس هوبز في كتابه «اللفياثان»، وهو معاصر للحرب الأهلية الإنجليزية، وهي حالة حرب الكل ضد الكل، وبذلك ينساق الجميع للحرب ضد الجميع، ضمن اقتناعٍ وبرودةِ أعصاب، ومع تأقلمٍ مع حالةِ الشرّ هذه، يغدو الدم جزءاً من الحركة السياسية والاجتماعية. ومن ثم، يحدث استمراء وإدمان لذلك، وإذا كانت الحروب الأهلية الإنجليزية والفرنسية والأميركية قد فقست عن مراحل أخرى سياسية، تمثّلت بأنظمة حكم مؤسسةٍ ابتدأت من «سيادة السلطان»، بوصفه سلطة السلطات، وطاعته من طاعة الله، كما يعبّر توماس هوبز، في القرن السابع عشر، فإن النظرية السياسية ستأخذ وقت نموّها الطبيعي لتتشكل ضمن «العقد الاجتماعي الحالي»، مع تعديلاتٍ وانتقاداتٍ مستمرّة له، منذ روسو إلى جون راولز، ذلك أن الواقع مثل الناس يتغيّر معهم، وبالتالي تزداد إنسانيتهم كلما كانت المؤسسات أكثر نضجاً، ولم يعد إمكان حربٍ أهليةٍ ببلدٍ عربي مثله ببلدٍ أوروبي، فالفرق بين تجربتين، وجمجمتين، وثقافتين، ولعل من أبرز خصائص التجربة الأوروبية أنها «متجاوزة»، وليست ارتكاسية جامدة، تجترّ التاريخ باستمرار بلا كلل أو ملل، ذلك الاجترار يؤسس للعنف، ويمنع المجتمعات من إدراك الحماقات التي تدفع لأجلها أرواحها ثمناً لها، إما لخرافاتٍ تاريخية، أو أكاذيب وأوهام موروثة لا أصل لها. تذكر الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، بكتابها المرجع «أسس التوتاليتارية»، ضمن تحليلها لحقبة النازية، ما يمكن الاستئناس به لتحليل جيل ما بعد ثورات الدم، ذلك أن الأثر الذي خلفته النازية يشبه آثار الحروب الحالية، وهي بكتابها وضمن فصل «مجتمع دون طبقات» ترى «أن افتتان الدهماء بالشر والجريمة افتتاناً أكيداً ليس بالأمر الجديد، إذ لطالما ثبت أن الرعاع يرحبون بأعمال العنف، قائلين بإعجاب: لئن كان ذلك غير جميل، فإنه بالغ القوّة بالتأكيد. على أن العامل الأهم في سيرورة التوتاليتارية، هو اللامبالاة الصادقة التي تلازم المنضوين في لوائها، لئن كان ممكناً أن يقدّر المرء عدم اهتزاز قناعات النازي أو البولشفي، حين ترتكب الجرائم في حقّ أناسٍ لا ينتمون إلى الحركة موضوع التآمر المزعوم، أو أن يكونوا أعداء لها، فإنه لمن المذهل ألا يرف له جفن حين يشرع الغول في افتراس أبنائه، وحين يصير هو نفسه ضحية الاضطهاد، وحتى في حال أنه أدين ظلماً، أو طرد من الحزب، وسِيق إلى الأشغال الشاقة، أو إلى معسكر اعتقال».
ثم تفصّل بتعبئة هتلر لـ«جيل الجبهة»، معتبرة أن «قلةً قليلة من ممثلي هذا الجيل أوتي لها الشفاء من حماستها حيال الحرب، إثر اختبار فظائعها اختباراً واقعياً، ذلك أن الناجين من حرب الخنادق لم يصيروا دعاة سلام، إنما آثروا نوعاً من الاختيار من شأنه أن يفصلهم على حد اعتقادهم فصلاً نهائياً عن محيط (الكرامة الكريه)، والأحرى أنهم مضوا يتعلّقون بذكريات السنوات الأربع التي عاشوها في الخنادق، كما لو أنها شكّلت معياراً موضوعياً من أجل تأسيس نخبةٍ جديدة».
الجيل الذي عاش الفظائع في العراق، وليبيا، وسوريا، لن يكون بمنأى عن آثار الحرب، ذلك أنها ليست حربًا طبيعية مؤسسة ومنظّمةً ذات هدفٍ محدد، بل ضمن آثار انتفاضات دخل فيها الديني والطائفي والعرقي والقبلي، كل الانتماءات والنزعات أوقظت، وتحال إليها كل المعايير المسببة لضغط الزناد وقتل الآخر القريب، ذلك أن الجيل الغضّ الناشئ والنابت حديثاً قد تهشّم مبكراً، لقد رأى جيل بأكمله كل ما يمكن أن يقوم به الإنسان من شرّ، وعلى الجميع تهيئة المستقبل لأخطار سترتدّ على العالم من جيل غضّ منكوب، وجيل المقاتلين الذين يصعب إدماجهم مستقبلاً بالحياة المدنيّة.
حنة أرندت، وبمعرض مقارنتها بين الثورتين الأميركية والفرنسية، بكتابها «في الثورة»، تكتب ناعيةً البشر، وهم محتوى ماكينة الثورة التي تفرمهم: «إن جماهير الفقراء، هذه الأغلبية الساحقة من البشر، الذين سمّتهم الثورة بالبؤساء، والذين حوّلتهم إلى غاضبين، تخلّت عنهم، وتركتهم يحملون الضرورة التي خضعوا لها منذ القدم مع العنف، الذي استخدم دائماً للتغلب عليها، إن الضرورة والعنف كلاهما جعل البؤساء لا يقاومون قوّة الأرض».
التاريخ لا يعيد نفسه، غير أن التجارب مثل البشر قد تتشابه.