سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

دلالات الجماد

عندما سقط الاتحاد السوفياتي، وبدأت الصور بالخروج منه، لم أكن أتطلع إلى وجوه الناس، بل إلى المباني والشوارع لأعرف كيف كانوا يعيشون حقاً. وعندما انتقلت آلات التصوير إلى بغداد بعد سقوط صدام حسين، فوجئت كثيراً بأن معظم البيوت عادية وعاصمة المنّ والسلوى، من غير مبان حديثة ظاهرة. لم أكن أعتقد أن عاصمة كبرى مثل بغداد، سوف تكون أقرب إلى عاصمة عادية مثل بيروت. المظاهر ليست مهمة، لكنها تنبئ عنّا الكثير: عن مستوى المعيشة، ونوعية الحكم، والفوارق بين معالم الرخاء، أو الازدهار، أو شحّهما. لذلك، كان أول ما تفعله العواصم عندما يكبر شأنها، أنها تقلّد مهابات الكبار الذين سبقوا. برلين وواشنطن، وحتى باريس، قلّدت روما. والجميع قلَّد فيينا. وأسوأ ما حدث للجمالات الهندسية كانت مباني الستينات العادية في الاتحاد السوفياتي. وزاد في قلة هيبتها، وجودها إلى جانب المباني الرائعة. وإلى الآن، لا تزال تلك المباني بقعة غريبة في بلد يملك حصة كبيرة من جماليات العالم.
قد يقول معترض، أيهما أنفع، أن نشيِّد مبنى عادياً يؤوي الناس أم أن نتركهم بلا مأوى أو سقف؟ لا ضرورة. لا للسؤال ولا للجواب. لكن البساطة لم تتناقض يوماً مع الجمال. وشارع مكسيم غوركي في موسكو كان لا يليق باسم صاحبه الذي دافع عن الفقراء والمساكين، لكنه لم يعادِ الجمال والإبداع. بالعكس، كان نموذجاً لهما.
تكتشف مع الوقت، أن أشياء كثيرة تتشابه في العالم، برغم الفروقات الأخرى. في كتاب عن «كلية فيكتوريا» الأريستوقراطية في مصر، لاحظت أن أبناء العائلات الثرية كانوا يقرأون (خارج المنهاج) ما قرأناه كأبناء طبقة متوسطة. وأحد الطلاب الملكيين كان يقرأ روايات أرسين لوبين، اللص النبيل، الذي كان يسحر أبناء حارتنا بقدرته على التنكر والخلاص من الأفخاخ.
تأخرت في قراءة أعمال الروائي رشيد الضعيف، وهو من شمال لبنان. لكن الصور التي يرسمها في كتابه «ألواح»، تشبه صور جميع قرى لبنان في الخمسينات: أحوال الناس ومعاشهم ومعيشتهم ومفهومهم للأخلاق والكرامة الشخصية، وعظمة الأم في البيت قبل أن تحل الأم الآسيوية الموازية في لبنان، محل أم الرحم والأمومة. حتى الشبه مع أميركا كان قائماً في تلك المرحلة كما يعدد بيل برايسون: «لم يكن هناك حزام أمان، ولا ممنوع الدخان، وإلا الليل من السيارات، والبراد كان فرجة لا يملكها إلا القادرون، ولا كانت هناك كاميرات أمنية في كل مكان...» الخ.