سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

ليس في النشرة

عام 1940 قال الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ في مقابلة صحافية: «العزلة لم تعد ممكنة فيما عالمنا يشتعل. و(البرج العاجي) لم يعد مضاداً للقنابل. فواحدنا ينتظر الأخبار من ساعة إلى ساعة. وليس في إمكانه أن يتجنب قراءة الصحف أو الاستماع إلى الإذاعات. وفي الوقت نفسه، مُثقل بالقلق على مصير أقربائه وأصدقائه. هنا واحد يهرب من الاحتلال. وهنا آخر على باب قنصلية يتوسل تأشيرة إلى بلد مضيف».
بدأت بِثَبت تاريخ المقابلة من أجل المقارنة بين الوضع في الحرب العالمية الثانية ووضعنا اليوم. إن نشرات الأخبار التي يشير إليها زفايغ، كانت، ولا تزال، فظة وقاسية. ليس لأنها تنقل إلينا أنباء وصور وأعداد القتلى والموتى، بل بسبب ما نعتبره غير جدير بالذكر أو الإشارة. لم يعد أحد ينقل عدد الجرحى والمصابين. ما من أحد يعرف أعداد الخائفين والبائسين والمحرومين من الأكل والنوم مثل سائر البشر. ما من إحصاء عن الذين فقدوا أعصابهم وروعهم. ما من تقدير لأعداد الذين يشعرون بالقلق والعطف على الذين هم أقل حظاً من أقربائهم وأصدقائهم. ما من أحد منا يعرف علاقة الليبي والسوري والعراقي اليوم بالتلفزيون والصحف، يعرف منها أخبار بلاده. كيف يحمدون الله ساعة النوم ويضرعون إليه ساعة اليقظة أن ينجيهم من الأرقام والأعداد ورعب البراميل المتفجرة.
الظروف التي تحيط بنا اليوم ليست أقل من حرب عالمية. من يدري مدى وحجم التلوث الذي تتركه الأسلحة المريعة؟ من يعرف أثر صوت الغارات الروسية والسورية في ذاكرة ونفس الأطفال؟ فقط الصوت، دعك من الإصابات والخسائر. من يعرف ماذا يعني أن ينتظر اللاجئ في ألمانيا موعد الغداء، لأنه ممنوع عليه أن يجوع قبل ذلك؟ وهذا في أرقى وأهم وأكرم مراكز اللجوء.
الروايات الكبرى التي كتبت عن الحروب لم تكن عن الأموات، بل عن الأحياء. عن العذاب والمعاناة والذل. من «الحرب والسلم» لسيد الرواية تولستوي، إلى «الشمس تشرق أيضاً» لأرنست همنغواي، إلى غونثر غراس الذي روى أن أمه كانت تقدم نفسها للجنود السوفيات كي تحمي ابنتها.
لا نعرف ماذا تفعل الحروب بحصانة وأخلاق النساء الجائعة. الإنسان ذئب للإنسان. تتحدث صحف مصر عن «صناعة» اسمها تدبير الزيجات الموقتة. وتتنافس بعض العائلات المحتاجة في عرض من لديها على المكاتب المختصة. وللعروس المحظوظة مواصفات وأثمان متراوحة. وثمة إقبال على الرجل المنتفخ الجسم والجيب.
آسفون، ليس للفقر والجوع والتشرد، وجوه حسنة. الجمال صنو الكرامة البشرية، والحياة بشعة من دونها. ونصف العالم العربي أنين ورعب ومرهقون وتائهون. ولا ذكر له في الأخبار.