سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

تأنيث المدن

تختلف الشعوب والحضارات واللغات في التأنيث والتذكير على نحو محيِّر حقاً. نحن نذكّر القمر الذي نأنَس إليه ونؤنّث الشمس. الفرنسيون المتلهفون إلى الشمس، يعكسون الأمر. الروس يذكّرون «الوطن الأب»، ومعظم الشعوب الأخرى تؤنث «الوطن الأم». لكن جميع الشعوب متفقة في جميع اللغات على تأنيث العواصم والمدن. وفي العربية يكون التل مذكراً بالمفرد، ويؤنث بالجمع. التل والتلال. وكذلك الجبل والجبال، والنهر والأنهار، والبحر والبحار، والمحيط والمحيطات.
باريس ليست مؤنثة فقط، بل لها عطر. عندما أعلن بسمارك أن عليها أن تدفع حصتها من تكاليف حرب 1870، قال: «إن هذه السيدة الشابة ثرية بما يكفي أن تدفع فك الرهن». والشاعر بول فيرلين شعر بالتوتر بين «ذراعيها العاطرتين». وعندما أنشد نزار قباني لبيروت ضمها إلى سيداته: «يا ست الدنيا يا بيروت». ولكن «أم الدنيا»، وليست أباها، فمصر. وحتى في البطولة وقهر الآخرين، بقيت عاصمتها مؤنثة: القاهرة.
هل السبب العام هو الرابط الجمالي؟ ليس بالضرورة. لم يتغزل أحد «بعطر» لندن، فيما لم يبق شيء لم يُكتب في باريس وروما. وحتى عندما تضاف أسماء الرجال إلى المدن، ستالينغراد، أو لينينغراد، لا بد من إلحاق «المدينة» الأنثى بها: مدينة ستالين، مدينة لينين.
لا هذا ولا ذاك. بعد حملة نيكيتا خروشوف على الإرث الستاليني، غيّر اسم المدينة إلى «فولغوغراد»، مدينة نهر الفولغا الأسطوري. وأعيد إلى لينينغراد اسمها الإمبراطوري، سانت بطرسبرغ بعد انهيار الشيوعية، كما استعادت سمعتها كإحدى أجمل مدن العالم، تاركة لموسكو زحمة المدن وتوتر السياسة وذهبيات الكرملين التي يختال بينها فلاديمير بوتين، مذكّرا الغريم الأميركي والجيران الأوروبيين، بالقرون الإمبراطورية التي ما فتئ يحلم بها، في الوعي والباطن.
كيف ينسى الرفيق فلاديمير وهو يستعرض كاميرات الأخبار بين جدران الكرملين مثل لويس الرابع عشر في قصر فرساي، أن روسيا دحرت في عصرين أعتى متغطرسين في تاريخ أوروبا، نابليون وهتلر.