هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

الأزمة السورية أدخلت المنطقة مرحلة «ما بعد الغرب»

يعتبر «مؤتمر أمن ميونيخ» الذي يعقد غدًا (الجمعة)، ويستمر حتى يوم الأحد المقبل، منبرًا للحوار حول تحديات الأمن في العالم.
يوم الاثنين الماضي نشر المؤتمر تقريره السنوي، الذي سيناقش ملفاته كبار القادة. التقرير الذي يحمل عنوان: «ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام» يرسم صورة قاتمة عن عام 2017. في المقدمة كتب ولفغانغ إيشنجر، رئيس المؤتمر: يمكن القول إن البيئة الأمنية الدولية أكثر تقلبًا الآن من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية «وحذر من حدوث فراغ في السلطة ناجم عن انسحاب أميركي محتمل من المسرح الدولي، ومن تصعيد عسكري». ويوضح التقرير الأخطار التي يتعرض لها النظام العالمي، بـ«اللحظة غير الليبرالية».
اللافت أن إيشنجر يطرح مقارنة تاريخية جريئة. إذا عدنا إلى أواخر الأربعينات من القرن الماضي، خلال أزمة برلين، التي سبقت تشكيل منظمة الحلف الأطلسي، أي فترة تداعيات «خطة مارشال» الأميركية لإعادة الإعمار ما بعد الحرب، والمجاعات والمصاعب التي عانت منها أوروبا خلال فصل الشتاء من تلك السنوات، وفرض السيطرة السوفياتية على أوروبا الشرقية، يمكن القول إنها كانت فترة متقلبة جدًا.
ولفغانغ إيشنجر يجري مقارنة ما بين تلك الفترة والواقع اليوم؛ ما يؤدي إلى طرح علامات سؤال حول جزء من عنوان التقرير «ما بعد النظام». يتحدث كثير من المراقبين الدوليين عما إذا كان العالم الآن في فترة انتقالية إلى نظام عالمي جديد. يقول إيشنجر إنها أكثر فترة تقلبًا منذ الحرب العالمية الثانية. ويضيف: إن أهم الدعائم الأساسية للغرب وللنظام الليبرالي العالمي تضعف. وقد نكون على شفا عصر آخر للغرب، حيث إن قوة ليست غربية تعمل الآن على تأطير الشؤون الدولية، أحيانًا بالتوازي، أو حتى على حساب تلك الأطر المتعددة الأطراف التي وضعت أساس النظام الدولي الليبرالي منذ عام 1945، ثم يتساءل: هل نحن ندخل عالم «ما بعد النظام؟».
في التقرير إشارة قوية إلى هيمنة الخطاب الشعبوي الذي تسبب في تحول جذري، أو تجاوز توجه الديمقراطية الليبرالية والمبادئ التي تصاحبها. رأى التقرير أن دعم «الحلول التسلطية» في تصاعد بين الشعوب التي تعيش في مجتمعات ديمقراطية.
يشرح محدثي، الدبلوماسي الأوروبي، أنه من المهم أن ندرك أن البيئة الأمنية الدولية يمكن أن تتغير من خلال خطوات صغيرة، ليس من الضروري أن تكون دراماتيكية أو مثيرة، لكنها تتراكم على مدى سنوات فتصل إلى شيء كبير.
من الأمور التي حدثت عام 2016 كان الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، فجاءت النتيجة حافزًا لإعادة النظر في العلاقات الدولية، ثم جاء انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب تأكيدًا على التغيرات التي تحدث الآن على الأرض.
في خطاب تنصيبه أعلن ترمب تغييرًا تاريخيًا في علاقات الولايات المتحدة مع الدول الأخرى، واعدًا بأن سياساته الداخلية والخارجية ستضع المصالح الأميركية في أولوياتها.
يقول محدثي «إن انتخاب دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة، أخرج إلى العلن تساؤلات عدة حول أهمية النظام الدولي كما اعتدنا أن نراه؛ إذ إن لديه مواقف تجاه الحلف الأطلسي، وتجاه الاتحاد الأوروبي تختلف عن نظرة أسلافه. لديه مواقف مختلفة تجاه روسيا قد تتصلب أكثر بعد استقالة مستشار الأمن القومي مايك فلين، لكنه سيفرق بين عقوبات مفروضة على روسيا بسبب أوكرانيا والحاجة إلى موسكو لمحاربة «داعش» والإرهاب، ثم موقفه الحازم تجاه الصين، واعتبارها المشكلة رقم واحد التي تواجهها الولايات المتحدة في العالم، وعلى الرغم من اعترافه بسياسة «الصين الواحدة»، فإن هذا لا يقلص من حجم المشكلة. «كل طروحات ترمب شملت الكثير من الافتراضات التي مارسنا الكتمان عليها ورميناها وراءنا في الهواء». قال ترمب في خطاب تنصيبه: من هذه اللحظة، سيكون التوجه: أميركا أولاً.
ويشير التقرير إلى أن ترمب في خطابه تجنب أن يذكر: «الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان»، مما يشكل تناقضًا مع أسلافه. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة إلى القيم الليبرالية في جميع أنحاء العالم، يضيف التقرير.
يوضح لي الدبلوماسي الأوروبي: أن القضية الآن هي حول كيفية تساقط هذه الأوراق التي رماها ترمب في الهواء. لا نعرف النمط الذي سيتشكل عند ارتطامها بالأرض. لهذا؛ فإننا نمر بمرحلة من عدم اليقين في كل حال.
في التقرير فصل يحمل عنوان: «سوريا لا نهاية في الأفق». وما بدأ كمطالب احتجاجية تدعو الرئيس السوري بشار الأسد إلى التنحي، تحول إلى صراع طويل تورطت فيه جهات فاعلة محلية ومجموعات مسلحة ودول مجاورة وقوى عالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا، وإيران، ودول عربية. جاء في التقرير: «إن الكثير من الجهات تتدخل في الأزمة السورية في حين يحاول الغرب تدبير أموره بطريقة أو بأخرى». ربما يكون الشرق الأوسط دخل مرحلة «ما بعد الغرب»؛ لأنه نتيجة التدخلات الكثيرة في سوريا حصل تحول على طول الخط الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن على أي حال، صار لروسيا دور أكبر بكثير مما كان عليه في السابق، كما أن لإيران، حتى الآن، دورًا قويًا جدًا. إن لدى الولايات المتحدة بعض الخيارات حول كيفية الرد على ذلك، وينسحب هذا على الأوروبيين؛ لأن ما يجري هو في ملعبهم الخلفي.
يصل التقرير إلى فصل: ما بعد الحقيقة، وينصح من أجل منع هذا «النوع من العالم»، حيث: «إن لا شيء حقيقيًا، بل كل شيء ممكن» هي مهمة المجتمع ككل، مشيرًا إلى محاولات النواب في البرلمانات الغربية تجريم كل من ينشر ويوزع أضاليل. أما عن مستقبل الإرهاب فحسب التقرير، على الاتحاد الأوروبي التعاون ككتلة موحدة لمواجهة مجموعة من التحديات التي يشكلها التهديد من التطرف والإرهاب.
تقرير «مؤتمر أمن ميونيخ» يعطي لمحة عن التحديات التي تهدد بإطاحة النظام الدولي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية التي خلفت عشرات الملايين من القتلى والمشردين في أنحاء العالم.
إن عملية التشكيك في فاعلية منظمة الحلف الأطلسي، في شكلها الحالي، أو احتمال التخلي عن التحالفات التقليدية من أجل أخرى جديدة، إنما هي تساؤلات تؤكد تحولاً، في العلاقات العالمية والإقليمية بين الدول. التقرير الذي نشر قبل انعقاد المؤتمر يوفر لقادة العالم منطلقًا للحوار بشأن التحديات الأمنية والدفاعية التي لا محالة يواجهها العالم. قال إيشنجر: «آمل ألا نبتلع الكلمات أو نقرضها: بل أن نتكلم صراحة عن خلافاتنا، وكذلك عن المصالح والقيم المشتركة».
يبدو أن تخاصم العالم مع نفسه يهدد بحرب. العالم يهتز، فهل من الممكن للاعبين الأساسيين الذين سيكون بعضهم مشاركًا في «مؤتمر أمن ميونيخ» العثور على بعض الأجوبة؟
يقول محدثي الدبلوماسي الأوروبي: رغم الهزات الداخلية التي تعرضت لها إدارة ترمب، فإن التوجه السياسي لم يتغير. لكنها لا تزال إدارة «شابة»، وسيستغرق بروز نظام دولي جديد، بعض الوقت، هذا إذا كنا نسير حقًا في هذا الاتجاه، الذي بدأ يتبلور نوعًا ما. فهل أن القوى الكبرى، الولايات المتحدة، وروسيا، والصين وغيرها من القوى الصاعدة، ستقف مع حكم القانون، وإلى جانب المؤسسات الدولية القوية؟ أم أن كل قوة ستعتبر مصالحها فوق الجميع وفوق أي شيء آخر. هذه مسألة مهمة جدًا لمعرفة ما سيكون عليه التوازن. يضيف محدثي: إن القوى الكبرى تفضل دائمًا نظامًا يناسبها، وتريد دائمًا الاستفادة من هذا النظام لمصالحها، هي استثمرت في السنوات الماضية في النظام العالمي حتى خلال الحرب الباردة.
هل سيكون الأمر نفسه في المرحلة المقبلة، أم أنه سيكون مختلفًا؟
ينهي حديثه: بالنسبة للكثير من المراقبين والخبراء وصناع القرار: أن العالم في حالة قصوى من عدم الأمان.