فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

ربيعات عربية تنتظر على الأبواب

هل نحن على أبواب «ربيع عربي» آخر بعد ست سنوات من حريق البوعزيزي الذي انطفأ، وخمود جذوة النار في ميدان التحرير المصري، وتحول لهيب بنغازي إلى رماد، والقطع المزدوج لأصابع أطفال درعا على يد السفاح أولاً، وأمراء الحرب ثانيًا؟
اهتزت الدنيا قبل ست سنوات كما لم تهتز من قبل، في أماكن لم تصلها من قبل، لكنها سرعان ما استعادت توازنها بالحيلة والمكر والالتفاف، ثم بالرصاص الأعمى. لقد أوشكت قيم عشعشت دهورًا أن تنهار أمام أعيننا، لكنها انتصبت من جديد شامخة، قوية الجذور لكثرة مكوثها في الأرض المسكينة، حيث تحول الخضوع إلى قيمة ثقافية واجتماعية، تنخر في أجساد المجتمعات العربية، حتى كأنما استبطنتها، وأصبحت جزءًا من وعيها الباطن.
التاريخ مستمر في اللعب. سارقو النار لا يزالون يتعلمون، حالهم حال معلمهم الأول بروميثيوس، الذي لا تزال الصقور تنهش كبده. توهمنا أن الطغاة مضوا مع انبثاق الربيع بهالاتهم المزيفة، التي أوصلوها إلى مصاف المقدس الذي لا يمكن المساس به، وبشبيحتهم الاجتماعية الثقافية، لنكتشف بعد قليل أنهم فقط ارتدوا ثيابًا أخرى، مزركشة هذه المرة. يبدو أن هذه الأرض لا تزال عصية على الاهتزاز. لكنها ستطرى يومًا ما، وعندها سيهتز التاريخ هزة كبرى تتناسب مع معدلات القمع والخضوع والسكون الراكد في أعماقه منذ سنوات طويلة جدًا حتى إننا نسينا عديدها. ولماذا لا يهتز التاريخ عندنا الآن كما فعل في أنحاء أخرى من الأرض قبل قرون؟ ألم يمتلأ بعد؟ لماذا لا يهتز هذا التاريخ الصابر أكثر مما ينبغي أمام هول ما نحن عليه؟ تعالوا واقرأوا هذه الأرقام المرعبة:
نحن نشكل، حسب تقرير التنمية البشرية التابعة للأمم المتحدة 2016، 5 في المائة فقط من سكان العالم، ومع ذلك 45 في المائة من الإرهاب العالمي انطلق من أرضنا وتاريخنا، و58 في المائة من لاجئي العالم ينتمون إلينا. أما فسادنا فهو يلتهم 75 مليارًا في كل سنة على مدى ربع قرن، وتريليونًا يتسرب إلى الجيوب عبر السرقات الصغيرة غير المرئية.
لكن وسط هذه البلايا النادرة في التاريخ، هناك حقيقة مشرقة كما تبدو من السطح في الأقل. هناك جيل ينمو: 100 مليون شاب، أي 30 في المائة من 370 مليون عربي، وهو، حسب التقرير، الجيل الأكثر تمدنا في تاريخ المنطقة، والأكثر مستوى تعليميًا. لكن هناك حقيقة أخرى، لا يراها البعض أو لا يريد أن يراها عن سابق إصرار، وخصوصًا السياسيين. هذا الجيل مختنق سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا.. وحينما تحين اللحظة الذاتية والموضوعية المناسبة، كما يعلمنا التاريخ، والدروس القريبة للربيع العربي، سيعبر هذا الجيل عن نفسه بأشكال مختلفة، ليس أقلها الانفجار. لا بد أن يفعل ذلك مهما تأخر الزمن، فهي قوانين الطبيعة والحياة، وسيكون هناك ربيع حتى يهتز التاريخ، لافظًا ما في جوفه من تراكمات ينوء بثقلها.
ربما لم يكن الربيع العربي الأول سوى بروفة. ومع ذلك، نجحت هذه البروفة في كشف الطغاة أمام أعيننا وهم عراة تمامًا، وبائسين ولا بؤس الأطفال، وعرت إلى حد كبير خطابنا الثقافي والإعلامي الهلامي، وخلخلت، وهذا الأهم، شيئًا من قيمنا الاجتماعية والثقافية المتصلدة منذ دهور طويلة، طارحة على جدول أعمالنا قيمة كبرى لا ترتفع فوقها أية قيمة، وهي قيمة الحرية التي لا يمكن لأي مجتمع أن يزدهر من دونها. لا بد من مواجهة هذه الحقيقة، مهما تذرعنا بحجج وهمية لتأجيل مواجهتها، ومنها حجة الأمن. وبغض النظر عن مآل البروفة الأولى، فالمواطن قد اكتسب هذه القيمة إلى الأبد، ولو على المستوى الرمزي الذي قد يتحول إلى واقع مع تراكمه والنضال الدائب من أجل تحقيقه. على أولياء الأمر وعي هذه الحقيقة، وإلا سيكون هناك ربيع عربي آخر وآخر وآخر حتى تقوم القيامة.