مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

أزمة تواصل في عالم التواصل

لا يوجد عاقل يقبل بحالة الجفوة بين المملكة العربية السعودية ومصر، أزمة تواصل في زمن التواصل الاجتماعي. لا أدعي معرفة بأسباب الأزمة، ولكن أي عاقل لا يقبل بوجود حتى سوء تفاهم بين البلدين في زمن يتكالب فيه الجوار غير العربي (إيران وإسرائيل وغيرهما)، على العالم العربي الذي أسهم بعض أبنائه أيضًا في تقويض أعمدته الرئيسية.
الأسهل في مثل هذه الأزمات هو أن نقول: «مفيش مشكلة بين الإخوة»، «محدش غلطان على حد»، «مجرد سحابة صيف»، رغم أننا في الشتاء. الذين يقولون ذلك يعانون من مراهقة أو عدم نضج سياسي. الحقيقة هي أن هناك أزمة وإطالة أمدها فقط يوسع الفجوة ويسمح بـ«اللغوصة السياسية» التي تجعل من سوء تفاهم أزمة كبرى تضر بالبلدين.
لا بد من الاعتراف أولاً بأن الأزمة الإعلامية على الجانب المصري أسهمت كثيرًا في خلق جو من الضبابية يجعل الرؤية بين البلدين غير واضحة. وكمصري يعي تاريخ بلده، على الأقل الحديث منها، أقول إنني لم أعهد من قبل أن تدنت لغة الإعلام في مصر بهذه الدرجة، خصوصًا فيما يتعلق بالأشقاء، فجزء ليس بالقليل من إعلام مصر لا يليق بمصر. اختلف جمال عبد الناصر من قبل مع المملكة، وكان صوته واحدًا وهو محمد حسنين هيكل، ورغم أنني لست من المغرمين بهيكل وانتقدته كثيرًا، لأن هيكل كان صحافيًا تختلف معه، ولكن كان لديه عمق وفهم للقضايا، وكان محسوبًا على رئيسه مباشرة، فقد كان هو صوت عبد الناصر، أما اليوم فنحن أمام حالة «إعلام فرح العمدة»، إذ يتحول النقد إلى حالة من الردح دونما بعد فكري للخلاف أو الاختلاف. فمن يتحدثون في مصر عن المملكة ربما لم يزوروها إلا حجًا أو عمرة، يختصرون بلدًا بمساحة إيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا معًا في زيارة روحية إلى الأماكن المقدسة.
وإن سألت بعضهم عن تاريخ المملكة فلن يعرفوا منه سوى ما ساعدتهم به الثقافة السماعية، إذ لا يوجد متخصصون في مصر في تاريخ ومجتمع المملكة إلا عدد يقل عن أصابع اليد الواحدة وغير موجودين في الحوار العام.
أدخلنا بعضُ الإعلاميين في مصر في حالة من «الجليطة السياسية»، فإذا أخذنا موقفًا تاريخيًا مثل موقف المملكة مع مصر بعد ثورة 30 يونيو (حزيران) لا يجادل سوى حاقد بأن ما حدث في مصر آنذاك يمكن قبوله عالميًا دون موقف المملكة الجاد والصارم. كانت «فزعة» من طراز فريد، ومع ذلك عزا بعضنا موقف المملكة ذاك للمغفور له الملك عبد الله وحده، وكأن الملك سلمان يومها لم يكن وليًا للعهد ولم يكن جزءًا من القرار، وكأن السعودية دولة شخص بلا مؤسسات، والموقف من وجهة نظرهم كان للملك عبد الله وحده، ونحن مدينون للملك عبد الله وحده، وعندما رحل فنحن لسنا بمدينين لأحد. هذا ما أسميه «الجليطة السياسية». كان الملك عبد الله يومها هو أي الدولة ولكن كانت ولا تزال هناك دولة.
ليس الوقت هو البكاء على اللبن المسكوب، ولكن الوقت يتطلب إصلاحًا جذريًا للعلاقة، نظرًا لأهميتها القصوى لما تمكن تسميته بالعالم العربي. العالم العربي اليوم يعاني من فراغ استراتيجي كامل تقريبًا، فما تبقى من الجيوش العربية كالجيش المصري والجيش السعودي تم إشغالهما إما بمناوشات خارجية (الجيش السعودي) أو انكفاءة على الداخل مضافًا إليها تحديات سيناء في الشرق وليبيا في الغرب. حالة الفراغ الاستراتيجي هذه تدعو الدولتين إلى التماسك لا التفرقة.
إن ما يحدث اليوم خطير جدًا.
أدخلنا من لا يعرفون في حوار عقيم حول جزيرة هنا وأرض هناك، ولم يدرك البعض أن أرض العرب في حالة الأخطار المصرية كلها للعرب، ولن يتوانى أحد في أن تستخدم أراضيه لإنقاذ بلد شقيق. ألم تسخر السعودية كل أراضيها لتحرير الكويت واستضافت قوات من الجيش المصري على أراضيها؟ أليست جزيرة الفرسان التي تتمركز فيها أكبر قوة بحرية مصرية، وهي من أكبر الجزر في البحر الأحمر وأكثرها من حيث الأهمية الاستراتيجية، أليست تلك جزيرة سعودية سمحت المملكة لمصر باستخدامها؟
إن الحديث اليوم عن علاقة آخر بلدين محوريين للأمن القومي العربي يقفان في وجه التحديات أصبح حديثًا تافهًا لا يليق بمكانة البلدين، كما أنه حديث يشجع الأعداء على مزيد من النيل منا.
الغريب أن حالة الانسداد التي يعاني منها التواصل بين مصر والسعودية تحدث في حالة الهيبرميديا وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد، فهل أصبحت هذه الأدوات أدوات تواصل في الحالة المصرية السعودية؟ أعتقد أنها أصبحت أدوات ضبابية وانسداد.
ما العمل؟
ليدرك العرب اليوم أن منظماتهم الإقليمية، وأولها الجامعة العربية، لم تعد مؤسسات ذات بال ويجب التفكير في مؤسسة جديدة تشمل مصر والمملكة العربية السعودية وتجمع الدول العاقلة في العالم العربي، مؤسسة تليق بالتحديات. في السابق تحدث الرئيس المصري عن فكرة قوة دفاع عربي، فكرة ماتت في مهدها ولم تصمد أمام أول تحدٍ في اليمن.
إذن لا بد من التفكير في تجمع أكبر، تجمع به ما في التجمع الخليجي من روابط مضافًا إليه بعدًا استراتيجيًا وعسكريًا يجعل بلدًا كإيران تفكر مرتين في الدخول في مواجهة مع العرب.
حالنا اليوم سيئ وسيئ جدًا، وهذا يتطلب من العقلاء في البلدين النظر في المرآة للحظة لإدراك أن الوضع القائم لا يليق، وأن الحال لا يستقيم كما هو عليه، وأن حالة العناد ستكلف البلدين الكثير، فعض الرصاصة اليوم والتنازلات أفضل بكثير من غياب محور القاهرة - الرياض في مواجهة تحديات مصيرية مقبلة. مطلوب مجلس بين البلدين من العقلاء «المستغنين» ممن لا يبتغون لا مكاسب مالية ولا سياسية من خدمة الهدف الأسمى وهو الحفاظ على آخر دولتين استراتيجيتين ما زالتا تقفان على أرجل صلبة في وقت يهتز فيه الكثيرون. هدف هذا المجلس يكون هو الحديث العلمي والعقلاني الصريح، لا حديث مماحكات أو مناكفة، بل حديث رجال دولة لا رجال مصالح ضيقة. إني أرى أن الخرق يتسع تدريجيًا، ولقد يصل فيها إلى مرحلة يصعب على الراتق. أرجو أن ندرك حجم الخطر وليترك المراهقون المشهد قليلاً للعقلاء حتى تستقيم الأمور.