د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

السلفية الجهادية وخروج «النهضة» من الحكم

ظاهر الصورة يقول إن المعارضة التونسية، نجحت في الإطاحة بالترويكا الحاكمة وتضييق الخناق عليها إلى حد خروجها من الحكم وقبولها مرغمة الاستقالة. وتبدو مثل هذه القراءة لظاهر الصورة صحيحة إلى حد ما من منطلق أنه من الصعب والخطأ التشكيك في دور المعارضة وتمكنها بفضل طول النفس والإصرار وتوحيد الصف من أن تكون يقظة ومعارضة مسؤولة أمام الحكومة المؤقتة والشعب.
ولكن في مقابل ذلك فإنه من الخطأ أيضا الاعتقاد أن هذه القراءة شافية ضافية وملمة بحقيقة الوضع أسبابا ونتائج. ذلك أن قراءة متأنية ومتجاوزة لظاهر الصورة إلى باطنها، تنتهي بنا إلى الإقرار بأن المسؤول الأول عن خروج النهضة من الحكم هو السلفية الجهادية وهو المعطى الذي استثمرته المعارضة جيدا وجعلت منه مضمونا أساسيا من مضامين خطابها ومواقفها النقدية.
ويكفي في هذا السياق، أن نعود إلى حدث الهجوم على السفارة الأميركية بتاريخ 14 سبتمبر (أيلول) 2012 ثم اغتيال السياسي شكري بلعيد يوم 6 فبراير (شباط) من السنة الحالية وأحداث جبل الشعانبي والانفجارات المتواترة للألغام فيه وأيضا اغتيال محمد البراهمي يوم 25 يوليو (تموز) المنقضي وصولا إلى القتل الشنيع لعناصر من الجيش التونسي من دون أن ننسى عناصر الأمن التونسي التي قتلت غدرا من الإرهابيين في الأسبوعين الماضيين. ومن الواضح أن كل هذه الأحداث التي قمنا بسردها تحمل إمضاء السلفية الجهادية وتحديدا ما يسمى تنظيم أنصار الشريعة المحظور حديثا.
طبعا، إن تبني هذه القراءة والتركيز على مسؤولية السلفية التكفيرية لا يعني أننا نشاطر الطرح القائل إن السلفية الجهادية هي من أطاحت بحركة النهضة أي أن وجودها في حد ذاته وأحداث العنف والإرهاب التي قام بها المنتمون إلى هذه التنظيمات ذات الولاء لـ«القاعدة» فكرا وعملا، ليسا كافيين لفهم لماذا أصبحت حركة «النهضة» في عنق الزجاجة. بل إن المشكلة الأساسية تكمن في كيفية إدارة حركة النهضة لملف السلفية. وهي إدارة يمكن وصفها في مرحلة أولى بالتواطؤ ظنا منها - أي حركة النهضة - أن وجود التنظيمات السلفية الجهادية، يخلق نوعا من التمايز بينهما ويتأكد الطابع الاعتدالي لحركة النهضة.
وفي مرحلة ثانية، ظهرت «النهضة» من خلال شخص رئيسها راشد الغنوشي متبنية للشباب السلفي الجهادي ولكن سرا لا علنا. وربما لولا تسرب الفيديو المفاجأة والصدمة، الذي نقل اجتماع راشد الغنوشي بشباب سلفي يقول لهم فيه إنهم يذكرونه بشبابه ويحذرهم من أن الجيش في تونس غير مضمون والنخبة العلمانية أكثر شراسة مقارنة بنخبة الجزائر ربما لما وجدت المعارضة حجة قوية لتوخي الريبة مع خطاب النهضة ونواياها ذات الصلة بالمشروع الإسلامي الشامل.. ثم وأمام تواتر الأحداث الإرهابية وشعور حركة «النهضة» أن ناقوس الخطر بدأ يدق وأنها بدأت تطل على سيناريوهات الخسارة، انتقلت حركة النهضة إلى طور المواجهة ولكن بعد أن أضاعت الكثير من الوقت والفرص.
وإلى جانب أطوار علاقة «النهضة» بالسلفية الجهادية والاستراتيجية المغلوطة التي اتبعتها منذ البداية، فإن هذا التنظيم أضر بالترويكا الحاكمة على صعيدين مهمين؛ الصعيد الأول يتعلق بالأمن بمعنى أن الشعب فقد الشعور بالأمن بسبب تحول الأحداث الإرهابية إلى معطى واقعي متواتر الحدوث علاوة على اكتشاف مرات عدة مخابئ الأسلحة. أما على الصعيد الاقتصادي وباعتبار أن غياب الأمن أثر سلبا على الدينار التونسي وحركة استثمار رجال الأعمال الأجانب وحتى رأس المال الوطني، فإن تراجع الاقتصاد وإثقال الغلاء لكاهل المواطن قد زاد في إظهار سلبيات أداء الترويكا وتحديدا النهضة.
ولا يخفى أن كل هذه المعطيات والأبعاد إنما هي متصلة بعضها ببعض وتلك هي آفة التنظيمات الإرهابية، فهي عندما تدخل على الخط، تشوش كل الخطوط وتضرب الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة.
إذن الفشل في إدارة ملف السلفية الجهادية التكفيرية، يمكن اعتباره السبب الأقوى وراء اضطرار النهضة إلى الاستقالة رغم الرفض والتعنت والمناورات المتعددة التي قامت بها على امتداد الشهرين ونصف الأخيرين.
ويبدو لنا أنه رغم الخروج المتأخر جدا للنهضة من الحكم وعدم تحليها بالشجاعة الكافية في فبراير المنقضي بقبول مبادرة رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي والانخراط في خيار حكومة كفاءات وطنية، فإن البديل الحالي عن الحكم هو قيام النهضة ليس بنقد ذاتي بل بانتقاد ذاتي صريح وصارم وقاس وهي مراجعة توفرت لها اليوم كل الظروف الموضوعية باعتبار أن ممارسة تجربة الحكم لأول مرة تفتح الباب أمام قراءة مفردات الواقع في ضوء التجربة والممارسة والتواصل السياسي مع المجتمع التونسي. كل هذا يساعد بشكل كبير ومعمق على مراجعة النهضة لفكرها ولتصورها للمجتمع التونسي وللواقع الوطني والعالمي.. طبعا إذا أرادت أن تكون رقما سياسيا بفعل الرؤية التوافقية لا الراديكالية المتعنتة والمتعالية عن الواقع.