سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«ذهب النسيان»

احتفى لبنان أمس ببلوغ فيروز عامها الحادي والثمانين. وأضيئت القلعة الرومانية في بعلبك بأعمدتها الستة بصورة فيروز، التي صدحت تحت ضوء القمر هناك، للمرة الأولى، قبل ستين عاما. ورددت الإذاعات في الصباح ما يستيقظ عليه لبنان كل يوم، أغاني الصوت الأجمل، وأشعار الشعر الأدفأ، وموسيقى الجبال والأنهار والقدس ومكة والشام والبتراء وبحبك يا بلدي بحبك.
لبنان حكايات كثيرة. غابات وسهول ووعر. حرية وذل. حروب ومجاعات وهجرة. فكر وازدهار وفقر. فرح وعذاب ونجاة. كل هذه الحكايات صاغها عاصي ومنصور الرحباني شعرا وألحانا، ووقفت «عصفورة الشجن» فوق ذرى لبنان تؤديها في صوت ماسي، يحفر أوتار القلوب.
«يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر/ طرقات البيوت عم تكبر عم تكبر/ تخلص الدني وما في غيرك يا وطني/ يا وطني.. آه بتضلك طفل صغيَّر».
صاغت فيروز وطنا افتراضيا من شعر وموسيقى، في السلم زرعت حوله الورد والحبق، وفي الحرب وضعت حوله سياجا من حنين ووفاء إلى أيام كان جميلا وطيبا وحانيا مثل شجرات الصنوبر المستديرة. ومع كل جيل، كانت فيروز تتجدد، وصوتها يرفرف فوق العرب في أوطانهم وأوطان الآخرين، ظل ناحلا كالنسيم، وحضوره كثيفا كالأثير. وها هي ذهب الثمانين تسترجع.
«مثل السهم الراجع من سفر الزمان/ قطعت الشوارع ما ضحكلي إنسان/ كل أصحابي كبروا وتغيَّر اللي كان/ صاروا العمر الماضي/ صاروا ذهب النسيان».
بلغت فيروز الحادية والثمانين في زمن فائق الحزن والقتوم. الصواريخ تُطلق على مكة. والقدس تزداد غيابا. والشام جف عليها بردى الذي غنت له. وبيروت عصي عليها الأمل. والأمة التي أنشدت لها الأناشيد هائمة في البحار وفي البراري، والروسي يعبر الجبال والبحار كي يرمد المستشفيات فوق أجساد الجرحى وعيون الأطفال. وهل ما زالت متفائلة بفلسطين؟
«والمجد لأطفال آتين، الليلة بلغوا العشرين، لهم الشمس، لهم القدس، والنصر وساحات فلسطين».
اعتزلت فيروز في السنوات الأخيرة. ثقلت عليها هذه الأنواع من الأحزان. اختبأت وراء جدران الياسمين والورد. وظل صوتها يطل من كل الآفاق، يوزع بالمجان الحب والفرح ويحيي السكينة في القلوب الضعيفة والأنفس المرتعدة من هول البشاعات. لقد كَتبتُ لك وأنتِ في الثلاثين، «صوتك وطني». اليوم، أكثر من أي وقت مضى، صوتك وطني.