تيلر كوين
TT

التضخم.. أداة قيمة نعجز عن استغلالها

ماذا لو عاودت معدلات التضخم الأعلى الظهور؟
لمحت توقعات صدرت مؤخرًا إلى إمكانية بلوغ معدلات التضخم مستوى 4 في المائة بالنسبة للمملكة المتحدة. أما داخل الولايات المتحدة، فإن التضخم الأساسي يزيد قليلاً بالفعل على 2 في المائة. وربما نعاين معدلات انكماش أقل داخل الصين. ويكشف أحدث التقارير المعنية بإجمالي الناتج الداخلي الأميركي عن زيادة محتملة في النمو الاقتصادي.
إلا أن قلقي الأكبر يتركز حول الأوضاع السياسية، وليس الاقتصادية، ذلك أنني لست واثقا من أن منظومة الحكومة الأميركية في صورتها الراهنة قادرة على إدارة نقاش نشط وفاعل حول التضخم.
وحال تعرض الاقتصاد لصدمة سلبية، فإنه يتعين على بنك الاحتياطي الفيدرالي اللجوء إلى إجراءات تسهيل نقدي لتعزيز الاعتمادات وأسواق العمل، حتى وإن كان ذلك يعني ارتفاع معدلات التضخم. في الواقع، تعني محاولات كبح جماح معدل التضخم أن الاقتصاد يعاني طلبا سلبيا وصدمات على صعيد العرض في الوقت ذاته، وهذا الأمر باستطاعته خلق كارثة على صعيد النشاط الاقتصادي الكلي، على غرار ما حدث خلال صدمات أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي. إلا أنه في المرة المقبلة التي نواجه فيها مثل هذه الأنباء السيئة، ربما يصبح من الصعب تقديم الاستجابة المناسبة، ذلك أن الأفراد لا يبدون استعدادهم لقبول أسعار أعلى، حتى وإن كان ذلك مفيدا للاقتصاد.
دعونا نلقي نظرة على حجم التغييرات التي طرأت على الولايات المتحدة، ذلك أنه مقارنة بعقود سابقة، نجد أن النمو الاقتصادي ونمو الأجور تباطأ، وتقدم الهرم السكاني في العمر، وطال أمد مدة الخدمة الوظيفية، وأصبح الأميركيون أقل احتمالاً بكثير لأن يتنقلوا عبر مختلف البلاد سعيًا وراء وظيفة جديدة. إضافة لذلك، فإن أعدادًا أكبر من الأميركيين تقوقعت داخل قطاع الخدمات، حيث يشعرون بالحماية مع وجود شبكات قوية من الأصدقاء والحلفاء داخل العمل. لقد أصبحنا أكثر استقرارًا في أعمالنا، مما يعني أن الأفراد الذين يملكون وظائف يشعرون بأن التضخم يشكل تهديدًا أكبر ضدهم.
في إطار عالم النظريات الاقتصادية، تترجم معدلات التضخم الأعلى إلى أجور اسمية أعلى بسرعة كبيرة نسبيًا، الأمر الذي يبقي على الأجور الحقيقية المعدلة لحساب التضخم، مستقرة. بيد أن ذلك لا يتحقق تلقائيًا، لأن أصحاب الأعمال لن يقدموا على دفع مزيد من المال إلى العاملين لديهم إلا إذا خشوا من رحيلهم أو تمردهم. ومع تراجع معدلات حركة العمالة داخل الأسواق وعلى الصعيد الجغرافي، ومع تزايد أعداد الأسر المعتمدة على مصدري دخل، تزداد صعوبة قرار الاستقالة أمام أعداد أكبر من العمل عن ذي قبل.
وتتمثل المحصلة النهائية في أن التضخم سيترك كثيرا من العمال يعانون أجورا أدنى إلى الأبد، ذلك أن المصرف المركزي سيتسبب في تقليص أجورهم على نحو لم يكن أصحاب الأعمال ليجرأوا عليه. ورغم أن الأجور ربما تعاود التكيف نحو الارتفاع بمرور السنوات، فإن هذا التعويض يبقى غير مضمون بالنسبة للعمال.
في الواقع، معدلات التضخم الأعلى في جوهرها تعني دفع العمال نحو إعادة التفاوض بشأن أجورهم، وكثير من الأفراد، حتى وإن كانوا منتجين للغاية في عملهم، يدركون جيدًا أن الدخول في جولة جديدة من إعادة التفاوض بشأن الأجر لن تصبَّ في مصلحتهم بالضرورة. سياسيا، يصبح من الأسهل الإبقاء على التضخم في ظل اقتصادات تنمو سريعًا، حيث ينتقل الأفراد عبر السلم الاقتصادي باتجاه الأعلى بسرعة ويعيدون التفاوض بشأن أجورهم طيلة الوقت.
إلا أننا في الوقت الراهن نعيش في عصر يشعر العمال الأميركيون بالفعل بتهديد من جانب التجارة الأجنبية والتحول إلى الميكنة الآلية والهجرة. وعليه، فإن ارتفاع معدلات التضخم سيزيد من تفاقم المخاوف القائمة بالفعل. وستزداد الصبغة السياسية للمناقشات حول الاحتياطي الفيدرالي والسياسة النقدية.
في الأوقات العصيبة، يمكن للتضخم معاونة العاطلين والذين يواجهون احتمالية فقدان وظائفهم، في الوقت الذي يضر بمن يتمتعون بوظائف مستقرة. وحتى في الأوقات العصيبة، فإن أصحاب الوظائف تكون أعدادهم أكبر بكثير وهؤلاء أكثر احتمالاً لأن يصوتوا في أي انتخابات. وعليه، فإن الضغوط غير المباشرة على الاحتياطي الفيدرالي، عبر الناخبين والكونغرس، ربما تدفعه لتغليب مصالح الأغلبية. وعليه، من المحتمل أن تصبح المحصلة النهائية خلال الأوقات العصيبة أن يظل المال شحيحًا، وتزداد معاناة الخاسرين وتتفاقم التفاوتات.
داخل المملكة المتحدة، أبقى مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، على معدلات الفائدة منخفضة كي يتمكن من التعامل مع تداعيات «بريكست»، ما يوحي باستمرار معدلات التضخم المرتفعة لفترة. وقد تسببت هذه السياسة في تعرضه لانتقادات شديدة وفجأة تواترت أنباء عن رحيله عن منصبه عام 2019 بعد ست سنوات قضاها بمنصبه، بدلاً من فترة السنوات الثماني المعتادة. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن معدلات التضخم الأعلى قادمة لا محالة، عاجلاً أم آجلاً. وحينها، ستكون هناك ضغوط سياسية قوية على الاحتياطي الفيدرالي للإبقاء على الأموال شحيحة.
في الوقت الراهن، يبدو أن معدلات التضخم والسياسات النقدية تسيران على نحو جيد. أما الحقيقة الأقل إثارة للتفاؤل فهي أننا حصرنا أنفسنا داخل زاوية تجعل من سياسة التسهيل النقدي في ظل مناخ سياسي رافض للتضخم، خيارًا غير مرحب به في وقت تزداد الحاجة إليه.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»