محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

خرافة تطوير الذات!

رفعت يدي لأسأل، بكل أدب، ثلاثة من أشهر المحاضرين في العالم وهم يلقون محاضراتهم الجماهيرية، عن مصدر بعض الدراسات المهمة التي أشاروا إليها، فلم تصل إليّ إجابة سوى ترديد: «هي دراسة شهيرة»، أو «معروفة»، أو «لا تحضرني تفاصيلها حاليا»!
فضولي كباحث، ومؤلف كتب، وكاتب عمود صحافي، دفعني لتتبع تلك الدراسات، فلم أَجد لها أساسًا من الصحة، ولكنها تقدم كحجج فبركها، فيما يبدو، شخص، ثم تناقلها كتّاب ومحاضرون كثر. والأسوأ أنها ترجمت إلى عشرات اللغات، فوصلت إلى ملايين الناس! ومن «هذه الدراسات»، مثلاً، الدراسة الشهيرة المنسوبة لجامعة ييل التي زُعِمَ أنها تتبعت، على مدى عقدين، خريجيها الذين دونوا أهدافًا محددة في بداية حياتهم، وكانوا 3 في المائة، ثم تبين بعد عشرين عامًا أنهم راكموا ثروات قيل إنها فاقت باقي زملائهم في الدراسة (97 في المائة) مجتمعين، وتبين لاحقًا أنها دراسة لم تحدث أصلاً!
هذا الفضول في التأكد من حقيقة وجود دراسة دفع أيضًا البروفسور الإنجليزي ريتشارد وايزمان لتتبع ما سماها «خرافات» في كتابه الماتع والعلمي «59 ثانية»، حيث كشف أباطيل ما يدعيه البعض من وجود دراسات، بقوله إن أولئك «الأعلام بمجال تطوير الذات لم يكلفوا أنفسهم، على مدى سنوات، عناء البحث عن حقيقة تلك المصادر»! وإنها ليست سوى خرافات، ومنها تمارين يطلب فيها من المتدربين تخيل أنفسهم قد وجدوا فتاةَ أو فتى أحلامهم، أو وظيفة لطالما حلموا بها، وكل ما عليهم أن يغمضوا أعينهم ويتخيلوا أنفسهم كذلك، وسوف يتحقق قريبًا مرادهم. ورد على ذلك بأن الدراسات تثبت أن هذه التمارين «في أفضل حالاتها غير فعّالة، وفي أسوئها تعد مضرة».
هنا أتذكر دورة حضرتها لأفهم حقيقة طرح البعض، فقال المدرب: «أغمضوا أعينكم.. تخيلوا أنكم ترتفعون معي جميعًا إلى عنان السماء، ثم نرجع ببطء في خط الزمن إلى سنوات ماضية، ونجمع كل المواقف السلبية، ثم نهبط بها إلى قاعتنا التدريبية، فنضع الهموم في حقيبة.. نقفلها جيدًا، ثم نفتح جميعًا شباك القاعة وندفع بكل ما أوتينا من قوة تلك الحقيبة لنتخلص من همومنا إلى الأبد.. الآن افتحوا أعينكم، ما رأيكم، هل ما زلتم تشعرون بالهموم؟»!
هنا صعقت شخصيًا! فخرجت فورًا من القاعة، لأنني شعرت بقمة تفاهة هذا الطرح الذي لا يحترم عقول الناس. صحيح أنه ليس كل شيء يحتاج لدراسة، لكن الحياة وتغير سلوكيات الناس، تتطلب موضوعية أو عقلانية أو حكمة أو قصة معبرة لطرح فكرة «تحاول»، (أكرر تحاول)، تغيير سلوك الناس، وليس خرافات وأوهامًا نَصِفها لمتدربين لنشفط ما في جيوبهم، ثم نخسر ما تبقى من احترامهم لنا.
والمتدبر قصص العظماء والناجحين الذين صار يشار إليهم بالبنان، يجدهم قد صنعوا مجدهم بالأخذ بأسباب التغيير للأفضل. والقرآن الكريم يحث على أن الأخذ بالأسباب، وليس الخرافات، أحد عوامل تغير حال المرء، مثل قوله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». وحتى مريم ابنة عمران لم يكن صعبًا على من رزقها فاكهة الصيف بالشتاء، أن ينزل عليها رطبًا من دون أن تتحرك، لكنه تعالى قال لها: «وَهُزِّي إليكِ بِجِذْع النخلة تساقطْ عليكِ رطبًا جنيًا». وعلى الرغم من أن جذع النخلة صلب لا يكاد يتحرك، فإنها رمزية السعي والأخذ بالأسباب (فعل هُزّي). وهي العمود الفقري لتطوير الذات وتنميتها، فلو اجتمع الناس على صعيد واحد فلن يتمكنوا من تغيير سلوك فرد لم يقرر هو تغييره للأفضل، ولا أقصد هنا ردع من يخالف القوانين؛ بل المقصود هو إقدام الفرد على تغيير عادة من عاداته السلبية من دون إكراه.
والهدف الوحيد من هذا المقال هو إبراز أهمية التأكد من مدى وجود دراسة من عدمه، لكي لا نخدع المجتمع. والتفريق بين الدراسة العلمية واستطلاع رأي صحافي.
ولا أدّعي المثالية، فقد أخطأت، مثل غيري، وبدأت أنقب في مصادر كتبي لأنقيها من شوائب المصادر غير الموثوقة، وهي نادرة جدًا، ولله الحمد. وسأكون ممتنًا لأي فرد ينبهني إلى أي خطأ من هذا النوع، فالبشر خطاءون، ونحن يجب أن نتعاون لنقل كل ما من شأنه مساعدة أفراد أمتنا على تغيير سلوكهم نحو الأفضل. هكذا نتقدم جميعًا في مسيرة التطور المتسارعة من حولنا. فإذا لم يكن يومنا أفضل من أمسنا؛ خبرةً تارةً، ومعلومةً تارةً أخرى، فسنبقى نراوح في مؤخرة ركب التقدم.
[email protected]