مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

مقتل الرجل بين فكيّه

صال وجال الكاهن (فيرنر) في كنائس فيينا عام 1809 يلقي عظات ملتهبة عن الخطايا الشهوانية، وفي أحد الأيام راح يخطب في جمهور كبير، متكلمًا عن تلك القطعة الصغيرة من اللحم التي هي أخطر عضو في جسد الإنسان، وشحبت وجوه الرجال واحمرت وجوه النساء وهو يستفيض في الكلام عن العواقب المريعة لسوء استعمال ذلك العضو الصغير، واستمرت عيناه الثاقبتان تقدحان شررًا وهو يتابع شرحه النابض بالحياة.
وقبيل انتهاء العظة، انحنى قليلاً فوق المذبح وصاح بالمستمعين، هل اسمي لكم تلك القطعة الصغيرة من اللحم؟!، وران صمت مطبق على المكان، وفتحت النسوة حقائبهن ليخرجن منها أملاح الشم التي تستعمل في حالات الصداع والإغماء، أما هو فانحنى مرة أخرى واستجمع صوته في صرخة مدوية، هل أريكم تلك القطعة الصغيرة من اللحم؟!، فصمت الناس مرتعبين وانقطعت أنفاسهم.
عندئذ عبرت على وجه (فيرنر) بسمة حكيمة ماكرة، وخفض صوته قائلاً: «سيداتي وسادتي - انظروا! هذا هو مصدر خطايانا..، ومدّ لسانه خارج فمه. - انتهى.
لا أخفي عليكم أن طريقته هذه بالوعظ أعجبتني، وبما أنني كنت مدعوًا يومًا لإلقاء محاضرة في أحد المحافل، فقد سوّلت لي نفسي أن أتبع هذا الأسلوب الصادم أو المفاجئ، ووطنت نفسي على ذلك، وأمعنت خيالي بأن أزيد عليها الكثير من البهارات والمغريات لكي تكون الإثارة أكبر.
ولكنني وقبل أن تحين ساعة الصفر بيوم واحد، أخذت أقلب الأمور ونتائجها وتبعاتها، ووجدت أنه من الأسلم لي أن أبتعد عن هذا الأسلوب الملغوم، خصوصًا أن قومي الحاضرين (90 في المائة) من ذوي الدم الحار المشتعل، الذي سرعان ما تخطر على أفكارهم كل معطيات قلة الأدب.
فوأدت تلك الفكرة في مهدها، وبدأت محاضرتي بمقدمة تتحدث عن مكارم الأخلاق على غير عادتي، وكانت تلك المقدمة هي أبرد مقدمة لأي كلمة ألقيتها في حياتي، إلى درجة أنني أحصيت ما لا يقل عن مائة فم أمامي كانت طوال الوقت تتثاءب.
عمومًا يحتاج الإنسان في طفولته إلى سنتين ليتعلم الكلام، وبعدها يحتاج إلى خمسين سنة أو أكثر ليتعلم كيف يسكت.
وهناك ملك صيني يقول: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني هي، وإذا لم أتكلم بها ملكتها أنا.
فاللسان يحطم العظام، رغم خلوه منها.
ولم يكذب أكثم بن صيفي عندما قال: مقتل الرجل بين فكيه.
وصدق (ادلاي ستيفنسون) - مندوب أميركا الأسبق في الأمم المتحدة - تسعة أعشار الحكمة هي في الصمت، وعشرها الباقي هو الاختصار بالكلام.
عمومًا خذها نصيحة مني: أرح لسانك أكثر مما تريح عينيك وأذنيك، واشرب (يانسون)، وكبّر المخدة، ولا تصير (ملقوف).