د. سمير فرج
TT

ماذا قدمت حرب أكتوبر للفكر العلمي العسكري؟

كنت في زيارة إلى تايوان الأسبوع الماضي، للمشاركة في مؤتمر دولي عن «الأمن القومي في جنوب شرقي آسيا.. والتحديات التي تواجه الأمن العالمي لحلف الناتو وآسيا». وخلال أربعة أيام، لفت انتباهي، أنه يوميًا، كان الجميع يستشهد بما فعله المصريون في حرب أكتوبر 73، ومن هذا المنطلق، أستعرض، ما قدمته العسكرية المصرية في حرب 73، للفكر العلمي العسكري، وللمدارس العسكرية كافة في العالم.
فلقد كان لهذه الحرب، تأثير كبير على العقيدة العسكرية الغربية، ويأتي ذلك لأسباب عدة، أوجزها في:
أولاً: أنها كانت حربًا تقليدية بين الجيشين المصري والإسرائيلي، كلاهما مزود بأحدث الأسلحة والمعدات، إضافة إلى منظومات جديدة، لم تكن قد استخدمت من قبل في ميادين القتال الحقيقية. ويكفي القول بأن هذه الحرب، استخدم فيها، ولأول مرة من الجانبين، الأسلحة الإلكترونية، والأسلحة الإلكترونية المضادة Counter Electronic Warfare (CEW)، على أعلى مستوى من التقنيات العلمية.
ثانيًا: التقاء عقيدتي قتال مختلفتين؛ بين الجيش المصري، وما يطبقه من عقيدة قتالية شرقية، مستخدمًا أسلحة، غالبيتها سوفياتية، والآخر الجيش الإسرائيلي، الذي يطبق أساليب قتال العقيدة الغربية، بأسلحتها ومعداتها. فوضح، لكل المحللين، أنها معركة بين فكر وتسليح العقيدتين الشرقية والغربية.
ثالثًا: أن العالم لم يشهد عمليات حقيقية، في حرب تقليدية، منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945، التي تغيرت بعدها مفاهيم القتال، وتغيرت الأسلحة والمعدات، باستخدام تكنولوجيا جديدة. حتى أن الحروب، التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مثل كوريا أو فيتنام، كانت من طرف واحد قوي، دون مقاومة منظمة من الجانب الآخر. فلم تفرز فكرًا جديدًا.
السبب الرابع: دخول الجيش الإسرائيلي لهذه الحرب، معتمدًا على انتصاراته في عمليات 1967؛ فقد حقق سمعة لا بأس بها، بقياسات المدارس العسكرية، التي اعتبرته مثالاً، يمكن تطبيقه في حالات أخرى. وجاءت حرب 1973، وأظهر الجيش المصري أداء عسكريًا متميزًا، ليجبر، جميع المراكز الاستراتيجية، والمعاهد العسكرية، والمحللين العسكريين، أن يحللوا كيفية نجاح هذا الجيش، في إلحاق هذه الهزيمة بالجيش الإسرائيلي، ويقطع اليد الطولى (الطيران الإسرائيلي)، التي طالما تغنت بها إسرائيل بعد 1967.
يتمثل الشق الخامس في: عنصر المفاجأة، الذي حققته القوات المسلحة المصرية، على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي، حيث جاءت ضرباتها الأولى، قوية، وسريعة، ومؤثرة.
سادسًا: إنجازات القوات المسلحة المصرية، أثناء حرب الاستنزاف، ولعلنا نذكر إغراق المدمرة «إيلات»، تلك العملية التي أدت إلى تغيير نمط التسليح وأسلوب القتال للقوات البحرية في العالم. كذلك بناء حائط الصواريخ المصري، غرب القناة، ودوره الرائع، أثناء الحرب، في تحييد القوات الجوية الإسرائيلية.
سابعًا: التكتيكات، وأساليب القتال الجديدة، التي نفذتها القوات المصرية في هذه الحرب؛ مما دفع المحللين العسكريين، إلى دراستها، والاستفادة منها. ولعل ما يدعو العسكرية المصرية، للفخر، هو أن المعاهد العسكرية، بلا استثناء، اعتبرت الدروس المستفادة من حرب أكتوبر 73، جزءًا لا يتجزأ من مناهجها الدراسية.
وجاءت بشائر تأثيرات التغيير أثناء حرب الاستنزاف المصرية، التي كان أولها بعد إغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات» فبدأت القوات البحرية في الدول كافة، بالاعتماد على اللنشات الصغيرة، والسريعة ذات السلاح المتطور، بديلا عن المدمرات الكبيرة وحاملات الطائرات والطرادات.
أما التأثير الثاني، فكان في مجال القوات الجوية؛ فوفقًا لمفاهيم القتال، يعتمد عمل القوات الجوية، على عنصرين هما «السيادة الجوية»Air Supremacy، بمعنى سيطرة القوات الجوية على ميدان القتال الجوي بالكامل. والعنصر الثاني كان «السيطرة الجوية» Air Superiority، وهذه السيطرة تكون على ميدان القتال بالكامل، أو على جزء منه، أو لوقت محدد. وخلال حرب أكتوبر، أضافت القوات المسلحة المصرية عنصرًا ثالثًا، وهو «تحييد القوات الجوية المعادية» بمعنى أنه رغم امتلاك القوات الجوية المعادية، القوة، والكفاءة، والعدد، التي يؤهلها للسيطرة الجوية، فإنها تعجز عن المشاركة. ولعل أبلغ دليل، ذلك التحذير الذي أطلقه قائد القوات الجوية الإسرائيلية، لقواته، بعدم الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15كم!!
والتأثير الثالث، كان نتاج تخطيط مبتكر، في التوجيه رقم 41، الذي أعد بمعرفة لجنة رأسها الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس الأركان، متيحًا لقوات المشاة العبور، دون دعم، لمدة 12 ساعة، هي مدة إتمام إنشاء الكباري، وعبور الدبابات. وهو ما تم التخطيط له باستخدام الأسلحة المضادة للدبابات، وبحسابات دقيقة للموجات الأولى من المشاة، فتمكنت من صد، وتدمير الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية في «خط بارليف». وهذا الفكر، لم يكن لأي مخطط عسكري أن يتخيله، قبل حرب أكتوبر 1973. وبالرجوع لقانون القتال البريطاني، في بند القتال في الأراضي الصحراوية، والأراضي المفتوحة، تجده ينص على استخدام «الستارة المصرية المضادة للدبابات»، مشيرًا لها بصفتها نتاج الفكر المصري.
أما التأثير الرابع، فكان «الحصار البحري عن بُعد» Distant Naval Blockade، حيث أشارت المراجع العسكرية الغربية، إلى أن نجاح القوات البحرية المصرية في إغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، بمنأى عن المدى الجوي الإسرائيلي، جاء مفاجأة الحرب. ليظهر، بعدها، في العقيدة الغربية، فكر جديد بعنوان «الحصار البحري عن بُعد» Distant Naval Blockade.
تمثل التأثير الخامس في عنصر المفاجأة، كونه واحدًا من أهم مبادئ القتال، في العقائد القتالية الغربية. فقبل حرب أكتوبر 1973، كانت كل المراجع العسكرية تشكك في إمكانية تحقيق المفاجأة بكامل أبعادها، استراتيجيًا، وتعبويًا، وتكتيكيًا، في ظل التقنيات الحديثة، والأقمار الصناعية، ووسائل الكشف المبكر. ولكن حرب أكتوبر، حطمت كل هذه المفاهيم؛ فقد كانت أكبر المفاجآت، هي الهجوم على خط المواجهة بالكامل، ليصعب على الإسرائيليين تحديد اتجاه الهجوم الرئيسي. لذلك؛ عند شرح العقيدة القتالية الغربية، في كتب علم فنون القتال «التكتيك» عن فترة المفاجأة، تجدها تؤكد على إمكانية تحقيق المفاجآت، مرة أخرى.
وكان التأثير السادس، في إضافة بند جديد إلى مبادئ القتال التقليدية، المتمثلة في المفاجأة، والسرية، والخداع، والمناورة...الخ، فكان البند الجديد، بعد 1973، وهو استخدام «أساليب غير تقليدية في الحرب الحديثة» Non - Conventional Methods in Modern Warfare. وعندما عرضت قوانين القتال الغربية هذا البند، فإنها بدأت منذ حصار طروادة، وصولاً إلى ما حققه المصريون في حرب 1973، من هدم الساتر الترابي باستخدام خراطيم المياه، وإغلاق أنابيب النابالم في خط بارليف.
كان التأثير السابع، إضافة جديدة لمبادئ القتال في العقيدة الغربية، وهو «النوعية»، فقد اعتمدت مقارنة القوات، قبل حرب أكتوبر، على أعداد المعدات والأسلحة. وجاءت حرب أكتوبر، لتقلب هذه الموازين بظهور عامل جديد، وهو الجندي المصري. ففي مناظرة أجريتها شخصيًا مع الجنرال شارون، عن حرب أكتوبر، وأذاعها التلفزيون البريطاني، سئل شارون عن وجهة نظره، فيما يراه المفاجأة في حرب أكتوبر؟ فجاءت إجابته «إن المفاجأة الحقيقية، كانت الجندي المصري، الذي اختلف عن الجندي في عامي 1967 و1956». فالجندي المصري عام 1973 كان من المؤهلات العليا، وروحه المعنوية عظيمة، لا يمكن إغفال تأثيرها. وهو ما دفع مراكز الدراسات الاستراتيجية إلى إضافة بند جديد، عند حساب ومقارنة القوى، وهو «النوعية القتالية»، ويقصد بها الفرد المقاتل، بسبب ما حققه المقاتل المصري في حرب 1973، وهو ما كان غائبا عن كل الحسابات السابقة، التي قادت إلى نتائج خاطئة. ولعل أشهر هذه الدراسات ما يقدمه معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن (IISS)، في تقريره السنوي الشهير «التوازن العسكري» The Military Balance.
أما التأثير الأخير، فكان تغيير مفهوم «الدفاع المتحرك» Mobile Defense، فقد طبقت إسرائيل الأسلوب التقليدي، في العقيدة الغربية، للدفاع عن خط قناة السويس، بالاعتماد على نقاط قوية على الخط الأمامي، مُعززة باحتياطيات قوية في العمق، تواجه القوات المهاجمة في مناطق احتواء لتدميرها. وجاء هجوم القوات المصرية على المواجهة بالكامل، واختراقها الدفاعات الإسرائيلية، لتجد الأخيرة نفسها عاجزة عن توجيه الضربات، فتشتتت، وخسرت معركتها. وبانتهاء الحرب، بدأت قيادات حلف الناتو تطبيق مبدأ «الدفاع النشط» Active Defense، وهو الشكل الجديد للنظم الدفاعية، في قانون القتال الأميركي والبريطاني. أما فرنسا فلجأت لتطوير الدفاع المتحرك بشكل جديد هو «الدفاع المتحرك العنكبوتي». وهو ما يدعو إلى تقدير القوات المسلحة المصرية، التي جاءت هذه الأفكار الجديدة، نتاجًا لخبرتها القتالية في 1973.
وفي النهاية، لا يسعني إلا أن أقول: إن ما حققه الفكر المصري العسكري في حرب أكتوبر 1973، سيظل دائمًا هو المحرك لأي تطوير في أساليب القتال الحديثة، أو تطوير الأسلحة والمعدات والأنظمة مستقبلاً، حتى تظهر حرب تقليدية جديدة، بين أطراف مقاتلة، لها قوة وشأن القوات المسلحة المصرية.

* لواء أركان حرب سابق بالجيش،
شارك في حرب 1973، رئيس جهاز الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية عام 1993، محافظ للأقصر عام 2004.