خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

بولدارك

هذه كلمة تحذير للمقيمين في بريطانيا أو القادمين لزيارتها. احذر من زيارة أي عائلة يوم الأحد بين الساعة التاسعة والعاشرة مساء. هذا موعد تلفزيون الـ«بي بي سي» مع مسلسل «بولدارك». ستكدر بزيارتك تفرج العائلة على هذا البرنامج فلا تحظى منهم بما تنشده من اهتمام وترحيب. لم يسبق لبرنامج أو مسلسل استحوذ على اهتمام الجمهور كهذه الرواية التي ألفها الكاتب الإنجليزي ونستون غرايام، وهو من أبناء منطقة كورنول التي سحرتني شخصيًا طوال وجودي في بريطانيا، وجعلتني في الواقع أتزوج بواحدة من نسائها. وقد أبدع هذا الكاتب في تصوير روعة المنطقة وسرد حكايات أهلها وفولكلورها. ومما لا شك فيه أن جمال المنطقة بجبالها وشواطئها وقراها قد ساهم في نيل هذه الشعبية للرواية. بيد أن هناك عناصر أخرى زادت من تعلق الجمهور بموضوعها، بحيث ضاعفت عدد السياح لها وجعلت بعضهم ينقلون بيوتهم إليها ويستقرون فيها. ومن يزُرْ بريطانيا ولا يرى كورنول، فهو كمن يزور مصر ولا يرى الأهرام فيها.
تصور الرواية أحوال المنطقة في زمن نحس عمّ فيه الفقر، بسبب كساد معادنها كالنحاس والخارصين وتسريح عمال المناجم، ثم توجه الجمهور إلى تسليب السفن التجارية الوافدة من وراء البحار. يستدرجونها إلى زوايا صخرية من الساحل، فتصطدم بالصخور وتتهشم فينهب بضائعها الجمهور. وهذا أحد مواضيع الرواية، عندما يساق بولدارك إلى المحاكم بتهمة التنظيم والتحريض.
بولدارك ابن إحدى العوائل الأرستقراطية. شارك في حرب الاستقلال الأميركية وعاد مشبعًا بأفكار الثورة الأميركية: الحرية والعدالة. لاحظ صبية في الثالثة عشرة من عمرها يسومها والدها أنواع العذاب. فأخذها من والدها واستخدمها عاملة في المطبخ. وعندما شبت وكبرت وقع في حبها وتزوجها. وكان ذلك أول عمل شق فيه عصا الطاعة والتقاليد بزواجه من خادمة بسيطة. ولكنه سرعان ما مضى في هذا الاتجاه الحر بتشجيع العمال على إعادة الحياة في مناجمهم المغلقة. وهنا وقع في نزاع مع بقية الأثرياء فسعوا للانتقام منه.
«بولدارك» رواية صممت لفضح عيوب الرأسمالية والأرستقراطية بعين الوقت ومناصرة الضعفاء والعاطلين والمحرومين وتجاوز الفروق الطبقية. إنها عمل اجتماعي اشتراكي يستحوذ على اهتمام الجمهور واستحسانه، مما ضاعف في شعبية المسلسل.
كانت الـ«بي بي سي» قد انتبهت لهذه الرواية كموضوع لمسلسل شعبي. بادرت وأخرجته في السبعينات. لاحظت النجاح الواسع للمسلسل فعمدت إلى توسيعه بهذه السلسلة الثانية التي واصلت قصة بولدارك وزوجته، ديملزه. ورغم التكاليف الباهظة التي تحملتها الـ«بي بي سي» في إخراجها الواقعي، فإنها جنت أرباحًا إضافية كبيرة من بيع حقوقها لمؤسسات التلفزيون العالمية، ولا سيما في الولايات المتحدة، وقد ترجمت إلى اللغات الأخرى ولقيت نفس الشعبية والحماس من جمهورها. «بولدارك» عمل أدبي ملحمي يحظى بإقبال الجمهور عبر السنين وعبر الحدود. السعي للعدالة والانعتاق وتجاوز السدود والقيود موضوع خالد في تاريخ البشرية.