مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

مكة مهوى الأفئدة

بمناسبة الحج، إليكم انطباعات «بيركهارت» الذي قدم للحج عام 1814، فقد وصف مكة المكرمة التي قدر عدد سكانها في ذلك الوقت بين 20 و25 ألفًا، وهو يقول:
بالإمكان تصنيف مكة كمدينة أنيقة، فشوارعها أعرض منها في المدن الشرقية الأخرى، ومنازلها عالية، وبعض منازلها من ثلاثة طوابق، وبالإمكان أن نعزو النقص في المباني الخلابة إلى التبجيل الذي يضمره سكانها للمسجد الحرام، مما يمنعهم من بناء أي صرح يمكن أن يدعي منافسته، وقد غابت عنها الأشجار والحدائق التي تبهج العين وتسر الناظرين، وشوارعها غير معبدة، وحال المياه فيها مثل جدة، فليس هناك سوى عدد قليل من الخزانات لتجميع مياه الأمطار، ومياه الآبار مالحة قليلاً، وتستعمل لأغراض مطبخية.
ويمضي معددًا أحياءها، بادئًا بـ«الشبيكة»: وهو أحد أنظف الأحياء وأجدها تهوية، ومن هناك ينطلق البريد يوميًا على ظهور الحمير إلى جدة، وهذه هي خدمة نقل الرسائل الوحيدة التي رأيتها في تجوالي في الشرق. ومن أحيائها «جرول» الذي سكنه البدو الذين يديرون تجارة النقل بين مكة وجدة، ثم «حارة الباب»، ثم شمالاً حي «باب العمرة» الذي يسكنه الحجاج لأنه الأرخص. وجنوب الشبيكة، تقع سوق الصغير، وتنتهي عند باب إبراهيم، وهو يدخل أحيانًا ضمن «المسفلة»، وفي طرف السوق باتجاه الجبل، تقع حارة «هجلة» التي يسكنها الأغوات وزوجاتهم، وهن جوارٍ زنجيات. والمسفلة بها بعض المنازل الجديدة، ويسكنها التجار العرب، وفيها منازل مهدمة يسكنها الحجاج الأفارقة القادمون للحج، ويزرع سكان المسفلة خلفها بعض الخضراوات عند نزول المطر. وهناك «أجياد»، وهي حي صغير بني على منحدر الجبل، ويسكنه العديد من الفقراء، ومنه شمالاً ندخل إلى «المسعى»، والمنازل المحيطة لائقة وجميلة. وشارع المسعى هو الأكثر استقامة وطولاً في مكة، وهو أحد الشوارع المتقنة، ويغص بالمتاجر، ولهذا فهو الشارع الأكثر ضجيجًا وارتيادًا، وقد بدا لي كسوق إسطنبول، وفي ساحة سوق المسعى تقام الحدود الشرعية على الجناة.
وبعد أن أدى الرحالة مناسك الحج، اضطر للبقاء بعدها شهرًا في مكة، بسبب انعدام الأمن بين مكة والمدينة، وصعوبة الحصول على الجمال.
وأخيرًا خرجت القافلة من العمرة في اتجاه وادي فاطمة، وكان الحر شديدًا في الصباح، رغم أننا في فصل الشتاء، وتعرفت على آراء الملاويين في الإنجليز، الذين كانت بريطانيا تستعمرهم، وقد كشفوا عن حقد متأصل عندهم، وشتموا عاداتهم، ولعنوهم لإسرافهم في شرب الخمر. ومرت القافلة بـ«عسفان»، وفيها بئر كبيرة وعميقة ونبع من المياه العذبة، وتوقفت القافلة في قرية «خليص»، وفيها بساتين البلح ومزارع الذرة والبامية والدخن. ومنها في الاتجاه الشمالي الغربي، قابلنا نسوة طلبنا منهن حليبًا، فقدمنه لنا رافضات أخذ نقود مقابله.