سريعًا ما ذوى الدخان الأسود الكثيف في سماء حلب، أعني ذاك الدخان الذي انبعث من دواليب اجتهد أولاد المدينة لجمعها وحرقها، لفرض غمامة سوداء تمنع طائرات النظام السوري وطائرات السوخوي الروسية من قصف الأطراف المحاصرة. نصر صغير في سياق محاولات فك الحصار عن ثلاثمائة ألف من أهل حلب، لكنه ما لبث أن عاد وطغى وضوح الاستقطاب بشأن المعركة الدائرة هناك.
حتمًا ليست هناك أولوية تتقدم على إنقاذ آلاف المدنيين المعرضين لموت يومي لا يرحم بنيران سورية روسية إيرانية، إلا أن الصراع الحاصل تجاوز تلك المهمة وتركها في مهب الصواريخ والقنابل والقتال والشحن الطائفي. فما يحصل في حلب لا يأخذ في الحسبان محنة السكان، قدر ما حول المدينة إلى ساحة مواجهة إقليمية دولية كبرى وقودها السكان ومصائرهم العالقة. وخير ما يمكن استغلاله لتزخيم مشاعر الاحتقان تداول صور وفيديوهات وبضعة تصريحات وتقارير إعلامية مشحونة، وتتكفل صفحات «فيسبوك» و«تويتر» بالباقي، عبر إشعال الساحات الافتراضية بكل أنواع الكراهية، حتى تكاد تصبح معارك تلك الصفحات أشد ضراوة من القتال نفسه.
لقد مهد النظام، ومن خلفه الإيرانيون والروس، للحملة على حلب بمشهدية لموالين يحتفون بالحصار ويدعون لإبادة مناطق ويجاهرون بدعوات للسحق والمحق، وبإعلام يصف ما يحدث بأنه «طوق» وليس بحصار، متجاهلاً الدماء الغزيرة التي أريقت. ولا بأس من إعلان كاذب لممرات إنسانية للمدنيين ومن يريد من المقاتلين، لكن تلك أيضًا كذبة لم تنطلِ على السكان الذين لم يقبلوا على المعابر المزعومة تلك، لعلمهم بأنها استعراض إعلامي وفخ لهم.
في مقابل مشهد إعلام النظام والمتحالفين معه، يبرز مشهد الفصائل التي تقاتل هناك، حيث أثارت تلك التنظيمات لغطًا بعد عدة فيديوهات حول المقاتلين الأجانب وفيديوهات سحل طيارين روس وقعت طائرتهم فوق المدينة، لكن أكثر ما سبب لغطًا هو إطلاق «فيلق الشام»، وهو أحد التجمعات المقاتلة ضمن تشكيلات «جيش الفتح»، اسم «إبراهيم اليوسف» عنوانًا للمعركة الأعنف في المدينة. وإبراهيم اليوسف هذا ضابط في جيش النظام البعثي، أقدم في ثمانينات القرن الماضي في ذروة المواجهة بين النظام والإخوان المسلمين على قتل عدد من الضباط كانوا يتدربون في المدرسة الحربية على خلفية مذهبية.
إذن، ما بين احتفاء النظام وحلفائه وجمهوره بحصار حلب والدعوات لرميها بمزيد من النار، وما بين فصائل بات نهجها المتشدد والمذهبي ديدنًا لا تستقيم معه دعوات الخلاص من النظام، يتخبط سكان حلب المحاصرون. لقد سبق أن اعتمد «حزب الله» الذي يقاتل مع النظام ومع القوات الروسية أسماء مذهبية لمعاركه، منذ أن بدأ قتاله في سوريا، وقد استخدمت تلك الشعارات وسيلة شحن مذهبي وإعلامي ساهم في تزخيم الاحتقان. اليوم أتت تسمية معركة رفع الحصار عن حلب باسم مجرم حرب طائفي، لتكرس غباءً طائفيًا مقابلاً وخدمة كبرى مجانية للنظام البعثي..
لا مفر، والحال هذا، من الاعتراف بأن النظام نجح في استدراج الجميع نحو معادلة الحقن المذهبي، ورفع ذلك عنوانًا لأي مواجهة ومعركة. وهنا يبدو أسوأ ما في المشهد هم أولئك الذين يعتبرون ما يحصل من عناوين وشعارات وممارسات مذهبية أمرًا طبيعيًا ولا مفر منه وعلينا جميعًا التسليم له.
من كان هذا حاله، فهو لا يعد السوريين سوى بالخلاص من ظلامة كبرى للوقوع في ثانية.
9:8 دقيقة
TT
حصار حلب.. وطوقها
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة