أنا ساوبيري
كاتبة اميركية من خدمة «نيويورك تايمز»
TT

بعد خروج بريطانيا.. هل تستطيع ألمانيا قيادة أوروبا وحدها؟

سواء اتضح أن قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي كارثة أو مجرد حجر عثرة في الطريق أمام اتحاد أوروبا، فهناك نتيجة واحدة واضحة لا تحتمل التأويل، وهي أن خروج بريطانيا سوف يعزز دور ألمانيا كزعيمة للقارة، وهو الدور الذي لا ترتاح له ألمانيا أو أي دولة أخرى. نادرا ما شعرت ألمانيا بتلك الوحدة رغم وجودها وسط أوروبا. فمع خروج بريطانيا، تفقد ألمانيا شريكا مهما داخل الاتحاد الأوروبي وفي سياستها الخارجية بصفة عامة.
لكن هذا لا يعني أن بريطانيا كانت شريكا سهلا في السنوات الأخيرة، فحتما ستصاب بالدوار عندما تفكر في رأي المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل، المعروفة بسياستها الحذرة، في رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عندما ألقى بعضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي على طاولة القمار في محاولة لابتزاز الاتحاد الأوروبي. فالسيدة ميركل تعتبر من أشد المؤيدين للوحدة الأوروبية، في حين يرى كاميرون أن الاتحاد الأوروبي «أكبر مما يجب ومتسلط أكثر مما يجب، ويتدخل في الشؤون أكثر مما يجب».
وفي ضوء ضغوط النهج «الأهلاني» الذي يقوم على حماية مصالح أهل البلاد وتقديمها على مصالح المهاجرين، اعتبر الكثيرون كاميرون شريكا مثاليا، فقد كان دوما مؤيدا قويا لإجراءات التقشف التي قادتها برلين أثناء الأزمة المالية العالمية والأزمة اليونانية التي تبعتها.
ودافع كاميرون عن صفقة اللاجئين التي أبرمتها ميركل مع تركيا، وعندما اتصل قادة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لمطالبته بالتوقف عن دعم الرئيس السوري بشار الأسد، قفز كاميرون على الخط.
وكان ما قدمه كاميرون على الطاولة أكثر من دعم شخصي؛ حيث تعتبر ميزانية التسليح البريطانية الأكبر في أوروبا، بالإضافة إلى بعثاتها الدبلوماسية ذات الوزن الثقيل، ناهيك عن الاقتصاد القوي مقارنة بغالبية الدول الأوروبية.
يعتبر الخروج البريطاني ضربة قوية لألمانيا في ضوء ضعف وتباعد باقي شركائها؛ إذ تراجعت العلاقات الألمانية البولندية، التي كانت قوية في السابق، وتجلت علامات التراجع بعد وصول حزب القانون والعدالة للسلطة في بولندا عام 2015، ولم تنتخب النمسا اليميني المتطرف نوربرت هوفر رئيسا للبلاد، وحتى علاقاتها مع فرنسا ليست على ما يرام، وعليه فقد تعقدت الأمور.
للوهلة الأولى، يبدو المحور الألماني الفرنسي، الذي كان بمثابة العمود الفقري للاتحاد الأوروبي لعقود، أقوى من ذي قبل. فبعد ساعات قليلة من الإعلان عن انتصار حملة الخروج البريطاني اقتبست صحيفة «فرانكفورت أليغمين زتونغ» تصريحات لجين مارك أريالت، وزير الخارجية الفرنسي ونظيرة الألماني فرانك والتر ستنمير عن مستقبل أوروبا، قالا فيها إن «أوروبا الآن في حاجة إلى مرشد»، وأن «هذا الإرشاد بات مسؤولية ألمانيا وفرنسا».
لكن فرنسا شريك صعب أيضا؛ حيث لا يتمتع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بثقة شعبه (13 في المائة فقط يثقون به وفق استطلاع أجري في يونيو (حزيران) الماضي)، ولا يحظى كذلك بثقة حزبه الاشتراكي. ويخضع الرئيس الفرنسي لضغوط من الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة المتوقع فوزها بثلث الأصوات في الانتخابات الرئاسية القادمة، وكذلك لضغوط من أقوى الاتحادات الفرنسية التي تعارض الإصلاحات العمالية المتواضعة على النهج الألماني الإنجليزي. ساهم كل ذلك، بالإضافة إلى الاقتصاد الضعيف، في أن يجعل الرئيس الفرنسي غير قادر على القيادة القوية داخل أوروبا، ناهيك عن خارجها.
صحيح أن خروج بريطانيا لا يتطلب وضع نهاية للتعاون البريطاني الألماني، لكن بريطانيا تواجه فترة طويلة من الانكفاء للداخل سياسيا في تعاملها مع الانفجار الداخلي لأحزابها الكبيرة، تحديدا الحزب اليميني المتطرف واحتمال استقلال اسكتلندا. وفي المستقبل المنظور، تقف ألمانيا وحيدة لتعلب دورا لم تسعَ له، بل طالما قاومته بقوة.
ففي مقال نشرته مجلة «فورن أففيرز» منذ نحو أسبوعين من الاستفتاء البريطاني، أكد وزير الخارجية الألماني ستنمير عدم رغبة بلاده في لعب أي دور قيادي في القارة، بيد أن «الظروف دفعتها للعب دور مركزي»، وفق ستنمير، مضيفا: «المحافظة على الاتحاد الأوروبي وتقاسم عبء القيادة هي أهم أولويات ألمانيا».
المشكلة هي أن المبرر الأساسي للاتحاد الأوروبي كان تقييد القوة الألمانية عن طريق توزيع أدوار القيادة على الدول الأعضاء، لكن ماذا سيحدث لو تطلب مستقبل الاتحاد اللجوء للقوة الألمانية؟
كان رد فعل ألمانيا الفوري بمجرد إعلان نتيجة الاستفتاء بخروج بريطانيا أن طالبت بترتيبات جديدة لتوزيع العبء على باقي الدول الأعضاء. فبعد انتهاء التصويت يوم السبت، اجتمع وزراء خارجية الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي - بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولكسمبورغ وهولندا - في فيلا بورسيغ، المقر الرئيسي للحكومة الألمانية، ويوم الاثنين استدعت ميركل رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد تاسك، ورئيس الوزراء الإيطالي متاو رنزي، والرئيس الفرنسي هولاند للتوجه إلى برلين.
بالتأكيد، لم يخفَ على أحد معنى قدرة ميركل على دعوة زملائها للاجتماع على أرضها لمناقشة كيفية تقاسم جزء من عبء الانسحاب البريطاني. وصرح جارسلو كازنسكي، رئيس حزب القانون والعدالة البولندي، بأن فكرة اجتماع الحرس القديم للاتحاد «لم يفكر فيها الكثيرون»، واشتكى رئيس وزراء لكسمبورغ زافير بيتيل في مقر الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي من تشكيل «أندية صغيرة داخل الاتحاد».
هنا تكمن المعضلة، فألمانيا لا تستطيع السير بمفردها، ولا تريد ذلك، لكن من دون شريك قوي يشارك في القيادة، فلن يكون أمامها خيار سوى تقاسم القيادة مع عدد من الشركاء غير الموثوق بهم، أو خلق دائرة مقربة جديدة. لا يريد أحد أن يعطى حزب القانون والعدالة مقعدا على الطاولة، لكن تجاهلها كليا سوف يسهم في تعزيز حالة النرجسية الوطنية في الدول التي تتشك في الاتحاد الأوروبي، مما يعنى مزيدا من الانقسام في القارة.
يعني هذا أنه يتعين على ألمانيا تولي القيادة. المهمة حساسة، لكن الآن بعد أن وجدت ألمانيا نفسها وسط المسرح، فلا خيار أمامها سوى أن تمسك بالزمام.

* محررة في صحيفة
«دير شبيغل» الألمانية
- خدمة: «نيويورك تايمز»