إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

«كردستان الكبرى».. الحلم والحقائق›

الصراحة.. كانت الجديد الوحيد في كلام مسرور البارزاني، نجل زعيم «كردستان العراق» مسعود البارزاني ورئيس المجلس الأمني للإقليم، عن ضرورة تقسيم العراق بعد إنجاز تحرير الموصل، وذلك بحجة أن التجربة «الفيدرالية» فشلت.
والحال، أنه ليس سرًّا عمل الكثير من القيادات «القومية» الكردية على امتداد المناطق التي يقطنها الأكراد من غرب إيران إلى شمال غربي سوريا، مرورًا بشمال شرقي العراق وجنوب شرقي تركيا على تأسيس «كردستان الكبرى».. التي لم تقم ككيان سياسي واحد وموحّد ومتكامل على امتداد التاريخ.
ولئن كانت بعض التجارب الكردية قد نجحت في بناء ممالك ودويلات بين وقت وآخر، آخرها – قبل «كردستان العراق» – «جمهورية مهاباد» في إيران والمملكة البابانية في شمال العراق، فإن ثمة عوامل منعت نشوء كيان كردي قومي كبير، أبرزها:
1 - اتساع رقعة الانتشار الكردي وتوزّعه في أراضي إمبراطوريات متعدّدة الأعراق مترامية الأطراف، ثم في دول قومية لا مصلحة لديها في نشوء كيانات عرقية أو مذهبية انفصالية ضمن حدودها.
2 - إن نسبة عالية من الأكراد اندمجت في المجتمعات الأوسع التي سكنتها، ولا سيما في المدن الكبرى، حيث تذوي العصبيّات وتذوب، ويتلاشى التفرّد، كالقاهرة ودمشق وحلب وبغداد وغيرها.
3 - البُعد الجغرافي النسبي لمناطق الأكراد عن البحر، ما قلّل من فرص حصولهم على دعم القوى الأجنبية الكبرى إلا ظرفيًا واستنسابيًا، مثل دعم السوفيات للملا مصطفى البارزاني (والد مسعود وجدّ مسرور).
4 - أهمية الثروات الطبيعية التي تختزنها مناطق توطن الأكراد بالنسبة للدول الكبيرة التي تضم تلك المناطق، وأهمها النفط في إيران والعراق وسوريا، والمياه في تركيا.
5 - وجود أقليات غير كردية في المناطق التي يحلم الأكراد بأن تغدو «كردستان الكبرى» معظمها يخشى على مصيره من تداعيات تصاعد المدّ القومي الكردي، الدافع إلى تقسيم كيانات الشرق الأوسط الحالية. ومعلومٌ التاريخ الدموي لأكراد العراق مع الآشوريين، والحساسيات الشديدة بين الأكراد والتركمان في العراق ماضيًا وسوريا حاضرًا، ناهيك من الأحقاد التي تعمّقت مع العرب والترك والإيرانيين إبان فترتي صعود تيار القومية العربية والقومية التركية الأتاتوركية، وضرب إيران الحركة الانفصالية الكردية، وصولاً إلى اغتيالها الدكتور عبد الرحمن قاسملو.
اليوم يتخلّى القوميون الأكراد عن تحفّظهم إزاء مشاريعهم لتقسيم كيانات المنطقة، ويتكلمون بصراحة ويتصرّفون كما يحلو لهم على الأرض، مستفيدين من ظروف مساعدة إقليمية ودولية.
في مقدم هذه الظروف ما نراه من عداء وجودي محتدم بين عالم عربي مُرتبك ومُحبَط، أنتج ارتباكه وإحباطه تيارات عدمية متطرّفة ومدمّرة للذات قبل أي شيء آخر.. وحُكم إيراني عدواني توسّعي يزرع الفتن في العالم العربي، ويغذّيها ويستغلها تارة تحت رايات «تصدير الثورة الخمينية» وطورًا بذريعة «حماية المراقد». ثم هناك الخلاف المندلع بين دول عربية سنّية تعادي أنظمتها «الإسلام السياسي».. وتركيا في عهدها «الإسلامي» تحت قيادة رجب طيب إردوغان. وهكذا بين العداء العربي «السنّي» – الإيراني «الشيعي» من جهة، والعربي المُعادي لـ«الإسلام السياسي» من جهة، وتركيا «الإردوغانية» من جهة ثالثة، وما خلفه من فوضى وتفتّت في العراق وسوريا، أتيحت للقوميين الأكراد فرصة ذهبية يعتقدون أنها قد لا تتكرّر، ليس لبناء حلم فحسب.. بل للثأر من الماضي أيضًا.
أما على صعيد الظروف الدولية، فإن الأكراد يستفيدون راهنًا من اقتناع بعض القوى الغربية، ومنها الولايات المتحدة، بأن الاعتبارات السياسية العالمية أسقطت الحاجة إلى الإبقاء على كيانات الشرق الأوسط بحدودها الحالية، ولا سيما، بعد تغيير خرائط أوروبا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي ثم اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) وظهور «القاعدة» ثم «داعش». والواقع أن غالبية هذه الكيانات أخفقت بعد نحو قرن على رسمها في بناء مواطنة حقيقية ومؤسسات سلطة راسخة. وها نحن نشهد حاليًا تفسّخ العراق وسوريا وشلّل لبنان ومحنة اليمن، وأيضًا، التهديدات التي يشكلها التطرف الإرهابي المتزيي زي الدين مستقبلاً على الأردن.. سواءً على شكل «داعش» أو توراتيي «الترانسفير» الإسرائيليين.
وبعد عقود من ترويج الديمقراطيات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، شعارات «الحرية» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان»، مقابل شعارات «حق تقرير المصير» و«إنهاء الاستعمار» و«مواجهة الإمبريالية» السوفياتية، تبيّن أن كل ما روّج كان مجرد شعارات جوفاء. فلا الحريات مَصونة ولا الديمقراطية ممارسة ولا حقوق الإنسان محترَمة. وفي المقابل نشهد رهن كيانات المنطقة مصائرها للآخرين، وعودة الاستعمار بوجوه وأساليب جديدة، وبزوغ أحلام إمبريالية إقليمية الطابع، عدوانية الطبيعة، تهدّد المشرق العربي برمّته.
إن حق الأكراد في تقرير المصير مسألة لا يجوز أن تخضع للتشكيك أو النقاش. ولكن في المقابل ليس من حقهم تقرير مصائر الآخرين، وإلا سقطوا فيما كانوا يشكون منه ويرفضونه.. من جيرانهم.
ثم إن ازدواجية المعايير وتزوير التاريخ والاستقواء التكتيكي بالقوى الكبرى وقطع جسور التعايش ليست اللبنة الصالحة لبناء «كردستان مستقلة» مستقبلاً. وهذا هو الشعور الذي يخرج به كل من يستمع إلى شخصيات كردية تتكلّم في الفضائيات العربية باستعلاء وثقة مفرطة عن معارك شمال سوريا، وتصرّ على إطلاق أسماء كردية على مناطق مختلطة سكانيًا، وتبشّر بالاحتفاظ بكل ما «تحرره» من الأراضي التي اغتصبها «داعش» في سوريا والعراق، وترفض أي جدال حول هوية كركوك، أو كيف ستنتهي الأمور في الموصل.
إن ما حدث ويحدث في أرياف محافظات الحسكة والرّقّة وحلب من ممارسات، وما يخطّط له من ربط «جيب» عفرين الكردي في أقصى شمال غربي سوريا بباقي الشريط الحدودي الشمالي، وصولاً إلى تأسيس «كردستان الغربية» («روج آفا») على حساب البلدات والقرى العربية والتركمانية في أقضية أعزاز والباب ومنبج وغيرها لا علاقة البتة بحق تقرير المصير.
«كردستان» المستقبل، إذا قامت، ينبغي أن تقدّم نموذجًا سلميًا وتعايشيًا لعموم المنطقة.. لا أن تكون «كيانا دخيلا» تفرضه على الشرق الأوسط حسابات مرحلية عند المجتمع الدولي.