رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

السياسات السعودية ومصالح العرب والمسلمين

ما انزعجت كثيرًا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة بشأن الأطفال في اليمن، كما لم أنزعج من اتهام الأمين العام ذاته السعودية بالضغط على الأمم المتحدة لإلغاء الدعاوى بشأن الأطفال من التقرير.
إنّ سبب عدم الانزعاج الأول هو أنّ كلام التقرير على لسان الأمين العام ليس جديدًا، وهو جزءٌ من حملة شعواء مستمرة منذ ظهور فعالية السعودية خارج حدودها، وفي المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والاستراتيجية. وكنا نحن العرب (عندما تحمل جهة حكومية أو إعلامية غربية على المملكة أو على مصر أو على العرب) سريعي الردّ استخفافًا بصناعة «الدوائر الصهيونية» للحملات ودُعاتها. وما تزال الدوائر إياها تعمل، لكنْ عند الإيرانيين هذه المرة بالإضافة إلى الصهاينة!
وما انزعجتُ من الكلام على ضغطٍ سعودي على الأمين العام ومعاونيه من أجل حذف كلامٍ من التقرير اليمني؛ إذ إنّ ذلك إن صحّ (وهو غير صحيح) فهذا يعني أنّ الجهد الدبلوماسي العربي الناعم والخشن صارت له فعاليته المشهودة!
إنّ حملات الصحافة العالمية ووسائل الإعلام الأخرى في السنوات الأخيرة بالذات على السعودية، صارت نوعًا من الدوغما العاتية التي لا تذكر أحيانًا أسبابها، بل تكتفي بالقبح والذم ومحاولات اغتيال السمعة. وبالطبع لا ينبغي التسرع بالرد كما كنا جميعًا نفعل في الستينات والسبعينات، بل المقارعة بالحجة، ومحاولة الكشف عن الحقيقة ومراعاتها. لكننا قبل ذلك وبعده يكون علينا أن نعرف مصالحنا ونصونَها، وأن لا نتردد ونفشل في معارك صراع الإرادات، أيًا تكن ضخامة الإعلام المعادي، الذي يريد التدمير والابتزاز ولا شيء غير. وبالطبع أيضًا؛ فإنّ معظم إعلام وسائل الاتصال هو إعلامٌ مدفوعٌ أو مأجورٌ ما قلَّ منه أو كثُر.
لماذا نقول ذلك كلّه؟ لأنّ التخرصات ومن جهاتٍ رسمية وأخرى إعلامية وثالثة من «المجتمع المدني العالمي» لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، والهدف إمّا تثبيط الهمم أو نشر الفتن. ولن تتراجع الهمم لأنها سياساتٌ ماضية التراجعُ عنها قبل بلوغ أهدافها خسارة خالصة. بيد أنّ المرض الآخر (= نشر الفتن) هو الأمر المخشي منه، والذي تكررت بعض وقائعه خلال السنوات القليلة الماضية.
ما هي المصالح العربية التي تحميها المملكة والتي تعرضت وتتعرض للتهديد؟ إنها بالإضافة إلى أمن الخليج ودوله ومجتمعاته: العمل على حفظ المناعة والاستقرار بمصر والأردن بالتعاون مع مسؤولي الدولتين - والعمل على إعادة الاستقرار إلى البلدان العربية المنكوبة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا - وتجديد المبادرة العربية للسلام في فلسطين. وعندما نتحدث عن النكبات الحاصلة لتلك البلدان فإنها تتنوع أسبابًا ونتائج. فهناك الأنظمة في سوريا والعراق. وهناك التنظيمات الإرهابية. وهناك التدخل الإيراني بعساكره وميليشياته. وهناك السياسات الدولية المتناقضة أو المتواطئة. وبالطبع فإنّ هذا الهولَ الهائل يدفع كثيرين للتردد أو الانكفاء على الذات، وهو الأمر الذي لم تفعلْهُ دول الخليج على ضخامة المشكلات، وتوسط الإمكانيات. والمعروفُ أنه تآزرت وتتآزر لدى دول الخليج للمرة الأولى القوة العسكرية مع الدبلوماسية الناعمة والحازمة في الوقت نفسِه. وقد استطاعت تحقيق الكثير خلال ثلاث سنوات لا أكثر، رغم ضخامة المشكلات، وأنّ هناك اختلافات خليجية وعربية في الرؤية والتصرف، وأنّ الإيرانيين شديدو الشراسة، وأنّ الأميركيين والروس ينسقون فيما بينهم، لكنهم لا ينسقون حقيقة مع دول المنطقة، باستثناء تنسيق كامل مع إسرائيل من جانب الأميركان والروس، وتنسيق آخر متزايد الوتيرة بين روسيا وإيران والولايات المتحدة.. والأكراد والسلطتين المتأيرنتين في العراق وسوريا!
إنّ الإدراك الخليجي، وبخاصة السعودية والإمارات، لضخامة المشكلات وتهدد المصالح العربية العليا، دفع بالدولتين العربيتين، ومن مواقع الاستقلال والالتزام القومي، إلى الاستمرار في التواصل والإلحاح مع الولايات المتحدة، ومع روسيا الاتحادية. وفي الوقت نفسه محاولة تكوين جبهة للمناعة والوقاية، هي الجبهة المزدوجة بين التحالف العربي، والتحالف العسكري الإسلامي. وفي هذا السياق محاولات التواصل والتهدئة مع تركيا وليس من منطلق التفكير بمستقبل سوريا والعراق فقط (وتركيا على حدودهما)؛ بل ولدفعها لمغادرة المواقع المشابهة لمواقع إيران لجهة التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية: إيران ترعى الجهاديات والطائفيات، وتركيا ترعى الإسلام السياسي! وما أمكن التوصل لنتائج بارزة حتى الآن، لأنّ روسيا تريد البقاء في سوريا الأسد وما بعدها، ولأنّ تركيا لا يشغلها «داعش»، بل يشغلها الأكراد الذين ترى أنهم يريدون إنشاء دويلات بداخلها وعلى حدودها تهدد وحدة أراضيها وشعبها. أما التطاول وتأجيل الملفات أو المغمغة فيها من جانب الولايات المتحدة، فلأنها تريد تمرير الدولة الكردية في سوريا وفي العراق، وتريد استئناس روسيا لأنّ هناك عدة ملفات مشتركة معها في الشرق الأوسط (إسرائيل والأكراد)، وخارج الشرق الأوسط في أوكرانيا وشرق أوروبا والبلطيق والقوقاز، وفي التوازن مع الصين.
وفي المقابل فإنّ الإيرانيين يعتبرون الصراع مع المملكة حربًا دينية وقومية في الوقت نفسه. وهو صراعٌ يذكّر بمحاولات الصفويين التنسيق مع الغرب الأوروبي ضد العثمانيين باعتبارهم العدو المشترك للطرفين!
فما العمل وقد تداعت علينا الأُمم تداعي الأَكَلة على القصعة، كما جاء في الأثر النبوي؟! العمل والأمل في موقف السعودية التي تُواجِهُ على هذه الجبهة الشاسعة، التي تحضر فيها دول العالم الكبرى. وصحيح أنه لا تزال هناك في أميركا وأوروبا صدورٌ ملآنة منذ هجمات «القاعدة». بيد أنّ السعودية لو انكفأت عن الاهتمام باستقرار العرب وسلامهم وأمنهم، لما لقيت هذا العَنَتَ من حلفائها وخصومها على حدٍ سواء. المطلوب لكي يرضى الاستراتيجيون الغربيون تحويل المشرق العربي إلى نهبٍ مقسّم الغنيمة الأكبر فيه لإيران. ولو فعلت المملكة ذلك لازداد حديث أوباما عن تأمين أمن الخليج، وعن التوازُن المفروض إقامته بين إيران وتركيا وإسرائيل، في بيئاتٍ خالية من العرب، وغاصّة بالطائفيات والراديكاليات والحروب الأهلية.
قبل أيام تجدد الحديث عن تنظيم عسكري للقوميين العرب الأشاوس الذين يعملون في سوريا مع بشار الأسد ومع «حزب الله» والإيرانيين (!). وإذا كان عصيًا على الفهم عملُ «القوميين العرب» الجدد عند إيران؛ فالعصي على الفهم أيضًا هذا «الإجماع» من القوى الإقليمية والدولية على تغييب العرب شعوبًا ودولاً، والاشتراط على السعودية والإمارات وباقي دول الخليج التخلي عن العرب والعروبة في مقابل الأمن والاستقرار!
لقد اجتمعت في الملك سلمان بن عبد العزيز رمزيات وطموحات الملك فيصل بن عبد العزيز والملك عبد الله بن عبد العزيز وجمال عبد الناصر وياسر عرفات. وذلك لأنّ الرهانات وسط هذا المخاض الفظيع عربٌ أو لا عرب. لقد كان رهان الملك فيصل على الصلاة في القدس، ورهان الملك سلمان بن عبد العزيز على أن تبقى بلاد العرب للعرب. والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.