توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

حزب النهضة الجديد

«النهضة حزب سياسي ديمقراطي مدني مرجعيته قيم حضارية إسلامية وحداثية.. نحن مسلمون ديمقراطيون، ولم نعد جزءا من الإسلام السياسي».
بهذه الجملة المحددة أعلن راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي، نهاية لتاريخ طويل من الالتباس الثقافي والسياسي، نعتقد أنه سبب رئيس للفوضى العارمة في السياسة العربية المعاصرة.
كشفت تجربة العقد الماضي عن فشل ذريع للتيار الديني في التعامل مع التحولات العميقة في عالم اليوم. ويرجع هذا الفشل إلى ثلاثة عوامل رئيسة، هي: أ) عجز التيار عن التحرر من جلباب التاريخ. ب) انزلاقه في الصراع الهوياتي. وتبعا لهذا، توهم امتلاك الدين وتمثيله الحصري. ج) إخفاقه في تحديد الشريحة الاجتماعية التي يخاطبها، الأمر الذي شتت خطابه بين الهموم والانشغالات المتباينة للطبقات الاجتماعية.
ويتلخص العامل الأول في سؤال: ما المرجعية الفكرية والقيمية التي نستمد منها الحلول الضرورية لمشكلات المجتمع والدولة المعاصرة، هل هي تراث الفقهاء السابقين أم اجتهادات البشر المعاصرين؟ ويتلخص العامل الثاني في سؤال: ما العلة الجوهرية لتخلف المسلمين عن ركب الحضارة، هل هي تآمر الغرب أم الانقسامات الداخلية أم فشلنا في الإجابة الصحيحة عن السؤال الأول؟ أما العامل الثالث فيلخصه سؤال: ما الطبقة الاجتماعية التي يريد الإسلاميون تمثيل مصالحها كي تحمل – في المقابل – مشروعهم السياسي؟ نعلم أن لكل شريحة هموما وانشغالات وتطلعات مختلفة، يشكل كل منها أرضية لثقافة ومتبنيات خاصة، بل – في معظم الأحيان – متعارضة مع نظيرتها في الطبقات الأخرى. فمن من هذه الطبقات هو المستهدف الرئيس بالخطاب السياسي للتيار الديني؟
كانت تلك الأسئلة هي محاور الجدل التي قادت لانقسام حزب الرفاه التركي، وقيام حزب العدالة والتنمية. ولحظة قيام هذا الحزب، قرر قادته تبني آيديولوجيا الدولة الحديثة، بمرجعيتها القيمية والثقافية. قرر أن الشراكة مع الغرب هي الحل التاريخي لمشكلات التخلف، وليس مصارعته، وأن الطبقة الوسطى المدينية هي حامل المشروع السياسي للحزب، رغم أنها – بالمعايير التقليدية – أقل تدينا من الطبقات الدنيا، سيما الريفية.
وقد حقق حزب العدالة نجاحات متوالية على مستوى الاقتصاد، وتعزيز الهوية الوطنية، والسياسة الخارجية، وقدم للأتراك نموذجا لم يعرفوه منذ قيام جمهورية أتاتورك. ويستند حزب العدالة إلى فلسفة بسيطة: إن الحزب السياسي هيئة متخصصة في السياسة العامة، يلتزم بالقيم الأساسية في الدين، لكنه لا يستعمل الدين في السياسة، ولا يستعمل السياسة في الدعوة.
وقبل عشرين عاما، تحدث راشد الغنوشي عن مسار مماثل، لكنه أراد الوصول إليه عبر المسار التقليدي، أي إعادة تفسير التراث القديم. ويبدو الآن أنه مقتنع باستحالة إحياء الموتى، وأن تجديد الفكرة الدينية مستحيل دون التحرر من جلباب التاريخ. وهذا يعني التحرر من قلق الهوية، والاتجاه للشراكة مع العالم، وليس مصارعته.
والمؤكد أن هذا التحول لن يمر دون خسائر، فالشريحة التي تطمئن عادة للتقاليد الموروثة ستخرج من دائرة تأثير حزب النهضة، وستفرز قادتها وتيارها الخاص. لكن من المرجح أن يزداد نفوذ الحزب بين الطبقة الوسطى المدينية. والأهم من هذا وذاك أن مجموعات كثيرة في العالم العربي سوف تجد في نفسها الشجاعة للسير في ذات الطريق. إن تحول حزب النهضة لن تنحصر انعكاساته في تونس. فالتيارات الدينية، سيما «الإخوان المسلمون»، ستشهد جدالات شديدة وانقسامات، وسنرى نسخا من حزب النهضة الجديد في أكثر من قطر عربي.