أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الخريطة الإيرانية الجديدة للجنازات

من بين الملامح الرئيسية المميزة لإيران وجود عدة مئات من المدن صغيرة ومتوسطة الحجم، التي تتسم كل منها بسمات مميزة لها، وتاريخ طويل.
على سبيل المثال، تخيل أنك في مدينة عقدا الإيرانية، الواقعة على أطراف صحراء لوت، حينها سيراودك شعور بأنه ليس هناك من وجود فيما وراء هذا المكان، حيث يخيم شعور عام على المدينة بأنه ليس ثمة مكان آخر في الكون خلاف هذه البقعة. ونظرًا لموقعها الفريد في قلب بساتين من أشجار الرمان والسفرجل، تبدو المدينة أشبه بجنة على الأرض. وتعيش هذه المدن الإيرانية بمعزل عن فوضى الحياة الوطنية، ونادرًا ما يرد ذكرها في عناوين الأخبار.
ومع ذلك، عاودت كثير من هذه المدن الظهور على خريطة المخيلة الوطنية، لتذكر الجميع بوجودها. بيد أن المؤسف أن السبب وراء هذا كان مأسويًا، وهو مقتل إيرانيين واحدًا تلو الآخر، أو «استشهادهم»، كما يحلو للدعايات الرسمية وصف الأمر، بعد أن جرى إرسالهم للقتال في حرب تبدو بلا نهاية داخل سوريا. وبذلك، تظهر داخل إيران خريطة جديدة لأرخبيل من مدن صغيرة تربطها سلسلة من الجنازات. وعليه، أصبحنا نعرف الآن من هم الرجال الذين يلقون حتفهم في سوريا.
بوجه عام، هناك ثلاث مجموعات: تتألف الأولى من شباب عاجز عن إيجاد عمل مع وصول معدلات البطالة في الفئة العمرية بين 16 و25 إلى نحو 40 في المائة. في المقابل، نجد أن الخدمة العسكرية في سوريا لمدة ثلاثة شهور، يمكن أن تثمر مكسبًا ماليًا في صورة شيك بقيمة 1500 دولار، علاوة على إضافة عنصر جديد لسيرتك الذاتية يزيدها بريقًا عند التقدم لعمل.
أما الفئة الثانية، فتتألف من ضباط متقاعدين من رتب مختلفة، بداية من عميد، وصولاً إلى جنرال بنجمة واحدة يبحثون عن عمل يضفي إثارة على حياتهم الرتيبة. ونظرًا لوجود ثلاثة هياكل عسكرية متوازية داخل إيران - الجيش النظامي والحرس الثوري الإسلامي و«الباسيج» - فإنها تواجه أعدادًا من الضباط أصحاب الرتب المتوسطة تفوق حاجتها. وعليه، تتقاعد أعداد كبيرة من الضباط، بينما لا يزالون في منتصف الأربعينات أو الخمسينات من العمر، مما يعني أنهم يعايشون عقودًا من الحياة في ظل شعور بالتهميش.
وهنا، تأتي فترة خدمة مؤقتة داخل سوريا لتحافظ على لياقتهم البدنية، وتعيد بث النشاط والإثارة في حياتهم، وتحيي مشاعر الشباب والتفاؤل. جدير بالذكر، أنه قبل أسابيع من مقتله، تحدث الجنرال حسين حمداني عن شعوره كطفل داخل متجر للحلوى.
وأخيرًا، تضم الفئة الثالثة ضباطًا يمر مشوارهم المهني بمنحنى صعود، حيث يمكن للفتنانت كولونيل شاب ونشط التحرك سريعًا نحو نيل رتبة جنرال بنجمة واحدة بمروره عبر سوريا.
أيضًا، يمكن للجنرال صاحب النجمتين الحصول بسرعة على نجمة ثالثة من خلال المشاركة في سوريا، والمرور عبر سلسلة من ميادين القتال الحقيقية أو الخيالية، والتقاط بضع صور «سيلفي»، في محاولة لتعزيز المكانة الشخصية.
هذا تحديدًا ما فعله بنجاح كبير الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيالق القدس» الخرافية، وأحد رواد فنون الترويج للذات، حيث تمكن بالفعل من اقتناص نجمة ثالثة.
إلا أنه على الجانب الآخر نجد أنه إذا كنا نعلم، ولو بصورة تقريبية، فإننا لا ندري من يرسلهم. الشهر الماضي، قال جنرال عطاء الله صالحي، قائد الجيش النظامي، في تصريحات صحافية إنه لا يعلم من يرسل أفرادًا من وحدة «القلنسوة الخضراء» النخبوية إلى سوريا للقتال والموت هناك. وقال: «القوات المسلحة لا تشارك هناك. إن الضباط المشاركين في سوريا يجري إرسالهم من قبل مؤسسة ما».
واللافت أنه هنا استخدم لفظ «مؤسسة»، مصطلح سياسي، مقابل «وحدة»، وهو لفظ عسكري، في إشارة لرغبته في فضح المغامرة السورية باعتبارها مقامرة سياسية. واستطرد صالحي في شرح ما يعد أمرًا بديهيًا، بقوله إن مهمة الجيش حماية الحدود ضد الأعداء الأجانب، في إشارة ضمنية إلى أن القتال في إطار حروب أهلية مشتعلة بدول أخرى خارج نطاق مسؤوليات الجيش.
وبخلاف حقيقة أننا لا نعلم رسميًا من يرسل هؤلاء الرجال للقتال في سوريا، وإن كان بمقدورنا التخمين، فإننا لا نعلم كذلك السبب وراء إرسالهم. جدير بالذكر أنه تبعًا لدستور الجمهورية الإسلامية، فإنه لا يمكن دخول الأمة في حرب من دون خوض عملية مجهدة، حيث تتعين مناقشة الأمر على مستوى مجلس الوزراء، وداخل المجلس الأعلى للأمن الوطني و«المجلس الإسلامي»، ويجب أن يجري في خضم هذه العملية تحديد عدة أمور: سبب الاشتباك في حرب، أهداف الحرب، الوسائل اللازمة لخوضها، من يتولى القيادة، من هم الأعداء ومن الحلفاء، ماهية آلية المراقبة والإشراف، وأخيرًا وليس آخرًا، كيف سيخدم مثل هذا الإجراء مصالح الأمة.
إلا أن شيئًا مما سبق لم يحدث، وفي حدود علمنا، فإنه حتى القيادات العسكرية الكبرى لا تدري تحديدًا حقيقة ما يجري. بفضل جنرال حمداني، نعلم أن وحدته وصلت إلى دمشق من دون مهمة محددة. من جانبها، لم تعلم المؤسسة العسكرية السورية سبب قدوم الإيرانيين، تبعًا لما ذكره حمداني، وبدوا متشككين في ما يكفي لأن يبقوهم بعيدًا عن «الأبواب الحديدية الثقيلة» حول مؤسساتهم العسكرية والسياسية.
ومع ذلك، تمكّن حمداني ورجاله في لحظة ما من إنقاذ الرئيس بشار الأسد، عندما بدا أنه كان على وشك السقوط. من ناحية أخرى، فإنه رغم اتفاق التعاون الدفاعي المبرم بين طهران ودمشق عام 2007، يبدو أنه لا تتوافر حتى الآن آلية محددة لعقد محادثات بين العسكريين من الجانبين، وتبادل الاستخبارات وتنسيق الخطط القتالية.
والواضح أن الكثير من الإيرانيين، بجانب أعداد غير معروفة من «المتطوعين» الأفغان والباكستانيين والعراقيين، ناهيك من مقاتلي الفرع اللبناني من «حزب الله»، يجري إرسالهم إلى ميادين القتل السورية في خضم حالة من الضباب والغموض. من جهته، أعلن «المرشد الأعلى» آية الله علي خامنئي أن هدفه الإبقاء على الأسد في السلطة.
إلا أن هذا القول يعد شديد الضآلة وبالغ الضخامة، في الوقت ذاته بالنسبة لهدف حرب - شديد الضآلة، لأنه من غير الواضح ما الذي سوف تجنيه طهران كأمة من وراء إنجاز هذا الهدف. أما مسألة أنه بالغ الضخامة، فتعود لأنه يبقى من الممكن أن يتوفى الأسد ببساطة لأسباب طبيعية، مما يترك إيران من دون هدف واضح من وراء حرب باهظة التكلفة.
كما أن الادعاء بأن المقاتلين الإيرانيين موجودون في سوريا كـ«مستشارين» يبدو غير مقنع، بالنظر إلى الأعداد الكبيرة التي تلقى حتفها أثناء القتال. ومن الصعب كذلك تصديق الادعاء بأن الإيرانيين ذهبوا إلى سوريا لحماية «الأضرحة» التي لم يكونوا على دراية بها حتى اندلاع الفوضى في سوريا. وعلى أية حال، فإن 95 في المائة من الإيرانيين الذين قتلوا في سوريا حتى الآن، فقدوا أرواحهم على بعد ما يصل إلى 200 كيلومتر عن أي ضريح.
وفي تحليل نشرته الشهر الماضي، لمحت صحيفة «كيهان» اليومية، التي يجري نشرها بإشراف من مكتب خامنئي، لما يبدو أنه استراتيجية ناشئة تجاه سوريا، حيث قالت إن إيران وجنودها المرتزقة، بمن فيهم «حزب الله» اللبناني و«فيلق فاطميون» الأفغاني ووحدات عراقية وباكستانية، تسيطر حاليًا على «الكثير من المواقع الاستراتيجية»، بجنوب ووسط سوريا.
والواضح أنه فيما يخص إيران، تبدو المغامرة السورية تجربة مأساوية باهظة التكلفة، ذلك أن المصالح الوطنية الإيرانية لا يمكن تعزيزها عبر قتل السوريين سعيًا وراء تحقيق هدف وحيد.
من جهته، أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التفاوت الكبير بين التكاليف والمكاسب من وراء مشاركته في سوريا، ويحاول الآن التراجع عنها. وكلما أدركت قيادة طهران الأمر ذاته سريعًا، كان ذلك أفضل.