فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

حول «النسكيّة البروتستانتية».. و«التطهّرية النجدية»

سخونة كبيرة تبعت الإجراءات الهيكلية بالحكومة السعودية، اشتعل النقاش عن حال المجتمع، والمنعطف الذي ستفرضه عليه الدروب الاقتصادية المتعددة، ستغيّر طوعًا أو كرهًا من قيمه، وثقافته وإيقاع وجوده وحياته. قد يهدّم الاقتصاد ما عجزت عنه كل رؤى المثقفين اللاهثين وراء المجتمع بسياطهم وألسنتهم وكتبهم ومقالاتهم طوال نصف قرن، مناقشين أثر الطفرات على القيم، وتدمير النفط لأنماط الإنتاج، وحراسة التعليم للنماذج المهشّمة القائمة، وتربية الاقتصاد الريعي لرؤى الاضطراب عن الحياة ومناكفة الدنيا. تغيير اقتصادي يُطمح أن يؤثر على الاضطراب الدنيوي، وينزع عن المجتمع الأوزار والأغلال التي كانت عليه. سيرة المجتمع الحديثة قد تشهد صفحاتٍ أخرى بسبب تجديد معنى العمل، والثقافة المرتبطة بالمال والثروة، والأسس التي بنيت عليها الرؤية والهيكلة، وتغيير الإرث المتراكم حول الآخر.
شكّلت التجارة في المجتمع السعودي، وقيم العمل أساسًا للبقاء على أرضٍ قاحلة، أصناف من المهن، وأسفار عرفت بـ«العقيلات»، ارتباط بالدكاكين وقيم الريف، صحب ذلك انكفاء عن العالم وعفاريته وأسحاره، مع مسحةٍ نُسكية في العلاقة بالمال، وتأويل ديني لطفرات الدنيا، بما يشبه دور الأخلاق (البيروتانية: التطهّرية، البروتستانتية) حيث العلاقة بين الاصطفاء الديني والنجاحات المادية، كما في تحليل فيبر حول الأخلاق البروتستانتية في روح الرأسمالية. فعلى النقيض من الكاثوليكية، تكوّنت بروتستانتية تطهّرية (دين - دنيوي) مستعينةً بتعاليم كالفن وتسفنغلي وبولينغر. يعلّق فيليب راينو بأن أوروبا بـ«انتهاجها منهجًا عقلانيًا وبتطبيقها للتقنيات الحديثة المتوصل إليها انفتحت على الآخر، انفتاحا على العالم ساعدت الرأسمالية على الذهاب قدمًا في البحث عن أهداف أبعد مما تستطيع أوروبا نفسها أن تمنحه للرأسمالية المتوسعة».
بينما من أجل فهم العلاقات القائمة بين الأفكار الدينية الأساسية لدى البروتستانتية النّسكية والقواعد المستخدمة في الحياة الاقتصادية نستعيد مقارنين ولائذين بأطروحة فيبر حيث التحليل لكتاباتٍ متحدّرة من الكتابات اللاهوتية للقساوسة، تأخذ التطهّرية رأيًا في «الثروة» تطهّرية نسكية رأت أن أتباعها قادرون على خلق مؤسساتٍ حرة، وتبيح للدولة أن تكون قوة عالمية، لتحوّل من بعد روح المحاسبة لا إلى وسيلةٍ اقتصادية بل إلى مبدأ سلوكي عام، وفي الأدبيات البروتستانتية فإن مما يضرّ بالعمل تبديد الوقت: «أكبر الخطايا»، فحياتنا ليست إلا لحظة قصيرة جدًا وجميلة، ويجب ألا ننصاع لثرثرات غير مجدية، فالوقت هو المال، ليكون من بعد «العمل» وسيلة نسكية، وهذا - بحسب رأي فيبر - ضمن تنويه الكنيسة الغربية، يتعارض مع الشرق، بل مع جميع الأنظمة الرهبنية في العالم.
تأخذ حالة تربية الثروة، ومن ثم العمل على استثمارها بوصفها الخير من الله طابعًا نسكيًا، وعدم الانغماس في مباهجها، أو التفريط في نعمتها قيمة مشتركة لدى النسّاك والطهرانيين، والنموذج الذي دبّجه ببراعة فيبر بأطروحته المعروفة لتكون ضمن أهم ما طرح في عصره فتح السؤال حول قيم العمل أيضًا ضمن تاريخ المجتمع السعودي وبخاصةٍ في نجد، إذ تعتبر السعي في الأرض والضرب فيها ومسابقة طيور الفجر للبحث عن الرزق، ضمن النسك المأجورة دينيًا المحمودة دنيويًا وهذا عزز من قيم العمل والإنتاج رغم شحّ الموارد الموجودة فيها آنذاك ولم تعزز من ساكنيها هذه الجغرافيا القاحلة إلا بعد الثورة المناخية بعد القرن الرابع عشر الميلادي، حيث المطر المرمم لما تمزّق من أرضٍ أكلت أبناءها بأمراضٍ وجوعٍ وعطش، لقد كان العمل هو حصن الكفاح في المنطقة القاحلة قبل النفط، وهو العنصر المحافظ على البقاء المقاوم للانقراض.
ثم إن التصوّر الطهري الذي يستمر فيبر في طرحه عن «النسكية والروح الرأسمالية» لم ينفصل عن الترسيمة الطهرية التي تتناول التأويل البراغماتي، فثمار العمل هي التي تحدد الغاية الربانية من تقسيم العمل، مستعيدًا المحتوى البروتستانتي لدى باكستر بأن تقسيم العمل يجعل من الممكن تطوير المهارة، وأن التخصص في العمل يؤدي إلى زيادة ونوعية الإنتاج وبالتالي خدمة المصلحة العامة والثروة المماثلة لثروة العدد الأكبر من الناس. ثمة شبه أساسي بين الأخلاق التقليدية العملية في نجد قديمًا وبين النسكية البروتستانتية حملت نماذج تطهّرية كثيرة تنظّف الثروة والذات من العمل، وبخاصةٍ إذا تذكّرنا مع فيبر أن: «الكنيسة البروتستانتية، التي تمارس تأثيرًا في الحياة الدنيا، تتعارض تعارضًا حادًا مع التمتع العفوي بالثروات، وتكبح الاستهلاك، لا سيما في مجال الأشياء الكمالية، وفي المقابل، يكمن مفعولها البسيكولوجي في تخليص الرغبة بالكسب من كوابت الأخلاق التقليدوية» تعليق باركلي: «إن الصراع ضد إغواءات الجسد والتبعية للثروات الخارجية لا يستهدف أبدًا الكسب العقلاني، بل استخدام الأملاك استخدامًا لا عقلانيًا»، فالعمل لدنياك كما العمل لآخرتك، شعار مؤثر في القرن الثامن عشر نفعيًا.
القيم الأصلية التقليدية عمليًا والمعروفة في المجتمع السعودي قبل النفط لم تعد قائمة، بقدر ما تبددت، وآية ذلك أن آخر العمليين المعاصرين من كهول تلك المرحلة لا يصدّق ما آلت إليه الصيغ الرعوية في تشويه المجتمع، كان يمكن استثمار تلك «التطهّرية النجدية» قبل آثار النفط ومفاعيله، الرؤية السعودية، وأوامر الملك المعيدة للهيكلة هي تصحيح لمسارٍ رعوي طال أمده، وانتفعت منه عائلات وأمم غير أنه لن يكون أفق المستقبل، والتذكير بزمنٍ مضى كان فيه الدكّان صنو المسجد يحتاج إلى جهد حكومات ودول، ولله في خلقه شؤون.