سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

حفيدة كيري‭!

لا أذكر أني رأيت صورة لمسؤول رسمي من قبل يضع إمضاءه على اتفاق دولي، بينما حفيدته التي لا تتجاوز السنوات الثلاث إلى جواره على طاولة التوقيع‭!‬
الصورة طيرتها وكالة الأنباء الفرنسية لوزير الخارجية الأميركي جون كيري وهو يوقع باسم بلاده على اتفاق باريس للمناخ، في نيويورك، آخر أبريل (نيسان) الماضي‭!‬
وأتوقع أن تكون الصورة قد استوقفت كل الذين طالعوها في أي صحيفة، كما أتصور أن يكون كل واحد منهم قد راح يسأل نفسه عن معنى وجود الحفيدة إلى جانب الجد في مناسبة لم يحدث أن حظيت مناسبة مثلها بمثل هذا العدد من الدول التي وقعت على الاتفاق.. فالجد لم يذكر شيئًا عن المبرر الذي دعاه إلى استدعاء الحفيدة أمام كاميرات العالم على نحو ما جرى‭.‬
كان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند هو أول الموقعين، وكان هو أيضًا الذي قال: ‬الأشهر الماضية كانت الأشد سخونة في السنوات التي مضت، ولذلك لا بد من التحرك بسرعة‭..‬لا عودة إلى الوراء‭!‬
وقد بلغ عدد الدول الموقعة 171 دولة، غير أن الدول التي تتسبب أكثر من غيرها في تغير ظواهر المناخ للأسوأ تظل هي الولايات المتحدة، والصين، ثم روسيا، فالهند، ومن بعدها دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرون‭!‬
وقد كان بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، يعني هذه الدول وهو يقول عبارته التالية في أثناء مراسم التوقيع.. قال: علينا أن ندعم الدول النامية في التحول إلى الطاقة والموارد النظيفة لها، لأنه ليس من المعقول أن تعاني الدول الأشد فقرًا وضعفًا من عواقب مشكلات لم تتسبب فيها‭!‬
المشكلة يعرفها الجميع، ويعاني منها الجميع أيضًا، ولكن بدرجات متفاوتة، فالدول التي لم تتسبب فيها هي الأكثر معاناة منها، وإذا كان الرئيس الفرنسي قد أشار إلى أن الأشهر الماضية كانت هي الأشد سخونة بسبب تحولات الطقس والمناخ، فالتحولات تعود في أساسها إلى الأنشطة الصناعية، التي لا تراعي مقتضيات حماية البيئة في دول بعينها تقوم على أرضها صناعات ثقيلة أكثر من غيرها‭!‬
وليس سرًا أن الولايات المتحدة والصين تتسببان وحدهما في 38 في المائة ‬من الانبعاثات الضارة، وسوف يكون التزامهما بما جاء في الاتفاق، قبل غيرهما، هو الفاصل في نجاحه، أو عدم نجاحه‭!‬ وكانت الأميرة لالا حسناء، شقيقة محمد السادس، ملك المغرب، هي التي رحبت بالتوقيع على الاتفاق، من جانب الغالبية العظمى من دول العالم، ثم كانت هي التي قالت إن مؤتمرًا سوف ينعقد في بلادها في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وإنه سوف ينعقد من أجل هدف واحد: متابعة الاتفاق، والتأكد من التزام الدول الموقعة عليه بما جاء فيه‭!‬
أقرأ كل هذا عن الاتفاق، وعن تفاصيله، بينما صورة حفيدة جون كيري لا تفارق عيني‭!‬
كان الوزير الأميركي يوقع بيده اليمنى وملامح الجدية تكسو وجهه، وكانت يده اليسرى على رأس الحفيدة، التي كانت بدورها تراقب ما يفعله الجد في براءة تليق بها، وتليق بمن هم في سنها من أطفال العالم.. ‬ولو شاء الله أن تنطق جملة مفهومة لقالت ببراءتها البادية: ‬ماذا يفعل هذا الرجل؟‭!‬
ولست أعرف سببًا دعا الوزير الأميركي إلى أن يأتي بحفيدته إلى ساحة توقيع اتفاق دولي على هذا المستوى، ولا أعرف سببا دعاه إلى أن يجعل حضور الحفيدة مثار دهشة، بمثل ما كان إقبال دول العالم مثار تفاؤل بمستقبل المناخ على الأرض‭.‬
سوف يأتي وقت لا يكون فيه جون كيري وزيرًا لخارجية واشنطن، وسوف يكون هذا الوقت قريبًا، وسوف لا يكون أبعد من أول العام القادم، وسوف يذهب الرجل إلى حيث يستريح، وحيث يحاضر في أنحاء العالم، وحيث يكتب مذكراته، وسوف تظل الحفيدة تكبر ويتقدم بها العُمر، وسوف تكون في ظرف سنوات من الآن شابة تعي، وترى، وتميز ما ترى، وسوف تعود إلى صورتها هذه مع جدها، ذات يوم قادم، لترى ماذا فعل بلدها بما وقع عليه، وكيف تصرف فيما التزم به أمام سائر العواصم‭!‬
هل أراد الجد أن يقول للعالم إن بلاده توقع على الاتفاق الذي يلزمها هي أكثر مما يلزم غيرها بقيود على صناعاتها من أجل حفيدته، ومن أجل جيل حفيدته في الأرض كلها؟! ‬هل أراد أن يبعث برسالة معناها أن بلاده إذا كانت قد ألحقت الضرر بدول، وشعوب، وأجيال، بما أفسدته في مناخ العالم، فإنها سوف تجعل مستقبل الحفيدة، وجيل الحفيدة، أفضل مما عاناه الذين سبقوا؟‭!‬ هل أراد كيري أن يقول إن الولايات المتحدة سوف تتصرف فيما بعد، إزاء العالم، بمسؤولية غائبة عنها منذ أن صارت قوة عظمى؟‭!‬
سوف نرى.. ‬وسوف تكون الحفيدة هي أول من يرى، وسوف تبرئ جدها، وبلادها معه، بعد سنوات من اليوم.. ‬أو تدينهما معا‭!‬
كل ما أرجوه ألا تتصرف الولايات المتحدة مع اتفاق المناخ بالأسلوب ذاته الذي تمنى جون بولتون،‬ مندوبها الدائم السابق في الأمم المتحدة، أن يتصرف به، حين راح يتطلع يومًا نحو مبنى المنظمة الدولية في نيويورك، ويقول: إذا كان المبنى من 38‬ طابقًا، فليست هناك مشكلة في أن تختفي منه عشرة طوابق!