مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

اللفتات البسيطة

المواقف الإنسانية، واللفتات الرائعة ليست حكرًا على أحد، وإليكم ثلاثة مواقف؛ الأول بطله صاحب سلسلة (مكنتوش) الشهيرة للحلويات، ومما قرأته في مذكرات إحداهن وتقول فيها:
كنت في السابعة من عمري ودخلت دكان الحلواني ورأيت صاحبه مكنتوش واقفًا وراء منصة البيع فتمتمت قائلة: من فضلك يا سيدي إن كعكة الزواج التي في الواجهة قد بلغت أقصى حدود الجمال، فأريد أن أدفع الآن (5 قروش) مقدمًا على حساب كعكة مثلها، فضحك الزبائن ضحكًا عاليًا، ولكن مكنتوش انحنى لي وقال جادًا: ومتى تريدين أن تتسلمي هذه الكعكة؟، فقلت: لن أتسلمها قبل مضي سنين، ولكنني أريد أن أستوثق منذ الآن أن تكون كهذه تمامًا، فقبل الرجل القروش وأعطاني بها وصلاً.
ومرت الأعوام وأخذت استحي مما صنعت فأبتعد عن الدكان كلما سرت في ذلك الشارع.
ثم دعيت ليلة زواجي لأتسلم علبة كبيرة، فلما فتحتها رأيت في داخلها كعكة كتلك التي رأيتها في حداثتي ومعها قائمة الحساب، فإذا هي كما يلي:
كعكة زواج واحدة
5 قروش على الحساب
بقية الثمن تحية من شركة مكنتوش، لقاء أصدق تقدير ظفرت به.
الموقف الثاني عن أحدهم عندما قال: طوال سنة، كان أبي البالغ الخامسة والثمانين يقطع مسافة 52 كيلومترًا يوميًا لتفقد أمي في مؤسسة للاستشفاء، وكانت الرحلة في الحافلة تستغرق نحو ساعتين ذهابًا وساعتين إيابًا، لكن أبي لم يأبه لذلك، فهو كان ودودًا ومنفتحًا، وأنشأ صداقة مع سائق الحافلة كما كان يبش للركاب الآخرين.
وذات يوم ماطر كان أبي ينتظر على موقف الحافلة حين توقفت سيارة صغيرة أمامه، ومد سائقها الشاب رأسه وعرض على والدي أن يأخذه إلى البيت، ثم أخبره أن عطلاً طرأ على الحافلة، وأن سائقها، وهو صديقه، اتصل به هاتفيًا طالبًا منه أن يتوجه إلى ذلك الموقف، حيث سيجد رجلاً متقدمًا في السن، وأن ينقله بأمان إلى منزله.
أما الموقف الثالث، فقد كان لـ(تشارلز اليود) الرئيس الفخري لجامعة (هارفارد)، فهو في التسعين من عمره، قصد ذات يوم صيفي منزل جيرانه، واستقبلته ربة البيت بحفاوة وأخذته إلى غرفة الجلوس، وبعد حديث قصير سألها: هل تسمحين لي أن أحمل مولودك الجديد؟!، ورفعت الأم طفلها من المهد ووضعته في حضن العجوز الجليس، وبعد دقائق من الصمت والتأمل، أعاده إلى أمه قائلاً:
لقد استحوذ الموت كثيرًا على أفكاري، وأحسست أنني في حاجة للتأمل في الحياة من جديد، وشكرًا لك وشكرًا لمولودك لأنكما أعطيتماني هذه الفرصة.
وكان لشكره هذا وقع عظيم في نفسية الأم - انتهى.
أنا شخصيًا تأسرني هذه اللفتات التي تبدو بسيطة في ظاهرها، غير أنها عميقة جدًا في دلالاتها، وهي غالبًا لا تكلف لا جهدًا ولا مالاً.