وليد بن نايف السديري
أكاديمي سعودي
TT

أميركا وتصويب المسار

يمكن تشبيه سياسة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تجاه منطقة الشرق الأوسط بـ «سلوك النعامة». فالشائع أن النعامة تدفن رأسها في الرمل عند شعورها بالخطر، ويُسْتَدَلُ بهذا من المواجهة بإغماض العين و«تجاهل» وجود الخطر، بينما الحقيقة أن النعامة لا تدفن رأسها في الرمل، بل تضع أذنها على الأرض لتنصت وحقيقة «تراقب» الصوت والحركة من خلفها وحولها، وذلك بعد أن تكون قطعت شوطًا من الركض للهروب مما أفزعها بدايةً.
وأياً كان الأمر، تجاهل الخطر أم مراقبته، فإن انتهاج إدارة أوباما – للأسف – لهذا السلوك، وبدعتها القيادة من الخلف، لا يليق بالسياسة الخارجية الأميركية في تعاطيها مع أحداث منطقتنا الخطيرة، فهي إما تتجاهل وتخفي رأسها متغافلة عن مجابهة التهديدات المحدقة باستقرار المنطقة وبمصالحها هي الحيوية ومصالح أصدقائها، أو أنها تراقب وتنتظر تطورات الأحداث وتفاعلاتها، متوهمةً أن مصلحتها تكمن في عدم اتخاذ دور حازم في معالجتها. وهذا خطأ فادح، لن يؤدي بحالٍ إلى تلاشي المخاطر والتهديدات، بقدر ما يتسبب في تفاقمها ومضاعفة أضرارها.
يصعب التَعْوِيل على سياسة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لضبابيتها وترددها، الأمر الذي أقلق حلفاء أميركا في المنطقة وحيّرهم. مثال ذلك، تخاذل الإدارة عند «ساعة الصفر» عن معاقبة نظام بشار الأسد لاستخدامه الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين السوريين، وتجاوزه «خطًا أحمر» حدده أوباما بنفسه. والمؤكد أنه لو تمت تلك الضربة المبكرة لأعادت بعض التوازن لأوضاع المنطقة وعززت فرص حسم الوضع لصالح الشعب السوري بدلاً من تفاقم مأساته، وتركه فريسةً للتدخلات الإيرانية والروسية.
وتتفاوت تفسيرات سياسة أوباما الانعزالية بين أسباب اقتصادية تتعلق بمعالجة تراجع الاقتصاد الأميركي نتيجة استنزاف احتلال العراق وأفغانستان، والأزمة المالية 07 - 2008، وأسباب ذاتية تتعلق بشخصية الرئيس أوباما واعتداده بتأملاته الفلسفية والتنظيرية عن المنطقة والتحولات العالمية ونظرته عن ضرورة تحويل الاهتمام الأميركي من الشرق الأوسط وأوروبا إلى شرق وجنوب آسيا، وأسباب سياسية ترى الانسحاب وترك المنطقة تنشغل بصراعاتها وتستنزف نفسها، وَتَوَهُمْ إمكانية إعادة تشكيلها لاحقًا وفق الرؤية والمصالح الغربية، في منطق يُسَايِر أهداف «الفوضى الخلاقة» لإدارة الرئيس جورج بوش الابن.
والمفارقة، أنه على الرغم من اختلاف سياسة إدارة أوباما ظاهريًا عن سياسة سابقتها إدارة بوش الابن، فإنها ارتكبت عمليًا أخطاء مشابهة أضرت بالمصالح الأميركية، فإدارة أوباما تطرفت في الانكفاء والتردد (رغم وجود تهديدات محدقة وحلفاء جاهزين للتعاون في مواجهتها)، وهو موقف لا يقل سوءًا بالنتيجة عن موقف سابقتها التي تطرفت في التوسع والعدوانية (والعمل بانفرادية وتَنَمُر). ولم تنجح أي من الإدارتين في علاج مشاكل المنطقة بتوازن وعقلانية.
يبدو أن الإدارات الأميركية لا تتعلم من أخطائها ولا تحسن الاستماع لنصائح أصدقائها القيّمة والتي ثَبُتَ صوابها، فقد حذروهم: من التورط في غزو العراق وحل جيشه ومؤسساته، وتقديم العراق على طبق من ذهب لنفوذ النظام الإيراني، وخلق فراغ استراتيجي دون ملئه لصالح الاستقرار والتنمية، وتداعيات مؤامرات «الفوضى الخلاقة»، وضرورة مواجهة إيران وحسم الأزمة السورية لصالح شعبها، وانتقال الإرهاب إن لم يجابه بطريقة ناجعة... وغير ذلك.
ولسنا الآن بصدد اللوم واجترار الماضي والتقوقع فيه، بل استقرائه للتعلم منه والتطلع لحاضر ومستقبل أفضل للعلاقات العربية الأميركية. ونعرض هنا – بتواضع – مقترحات نراها ضرورية للسياسة الأميركية لتعزز مصالحها وتكسب العقول والقلوب في المنطقة:
أولاً، المراجعة الجادة والموضوعية لجدوى السياسات الأميركية في المنطقة وتصويبها. فمن الخطأ استمرار الإسقاط وتطهير الذات واعتبار تردي الأوضاع يعود لعوامل داخلية، وتبرئة تلك السياسات.
ثانيًا، تبني مبادرة مشتركة – سريعة وفاعلة – للتعاون الجاد في احتواء أزمات المنطقة، وفي مقدمتها الأزمة السورية، فالتفاوض دون أوراق ضغط، تسليم للخصم. كما أن ترك أزمات المنطقة لفواعلها سيؤدي إلى تفاقم الكوارث والتهديدات الأمنية المباشرة للمصالح الأميركية والغربية وكل ما له علاقة بها.
ثالثاً، الحزم للجم تدخلات إيران التوسعية والهدامة في المنطقة. ويجدر بإدارة أوباما إدراك طبيعة آيديولوجيا حكم إيران المتطرف، ذات الأبعاد الطائفية وغير العقلانية، والمحركة لاستراتيجياتها وسياساتها. فأولوية التعامل مع هكذا نظام متمرد تبدأ بتقليم أظافره، لا مهادنته.
رابعًا، تقديم الدعم القوي والواضح للدور القيادي والمبادر للسياسة الخارجية السعودية لملء الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، والتنسيق وتكامل الجهود معه، وحث أصدقاء أميركا على ذلك.
وليس من الحكمة بمكان خذلان الأصدقاء، والتنكر لتاريخ طويل من التعاون المثمر للمصالح المشتركة، في ظروف ووقت حرج، خاصة في الثقافة العربية.
أيضًا الحديث الصحافي المنسوب لأوباما مؤخرًا لم يعزز الثقة والمصداقية، بقدر ما أضعفها. فاتهام أصدقاء أميركا بـ«الركوب المجاني» ومطالبتهم بتحمل مسؤولياتهم، تَدْحَضَهُ الشواهد التاريخية، في الوقت الذي لم يلمس هؤلاء الأصدقاء أصلاً قيادة من إدارته يمكن الركون إليها، فضلاً عن «الركوب مجانًا» عليها. أما دعوته للسعودية والدول الخليجية والعربية إلى التعايش و«تقاسم المصالح» مع إيران، فهي تقدم دليلاً آخر على عدم الفهم أو التغافل عن سياسة ملالي إيران الداعمة للإرهاب والمدمرة للمصالح العربية واستقرار المنطقة ومقدراتها.
واليوم أُبْتُلِيَتْ المنطقة بمستويات غير مسبوقة من عدم الاستقرار وتصاعد الإرهاب والطائفية وتهديدات التقسيم، تستدعي المبادرة السريعة لتوثيق الالتزام وتعزيز التحالف والعمل المشترك لاحتوائها ومعالجتها.
والإصرار على سياسة النعامة – في هذه الظروف – خطأ فادح، وإرجاء لمواجهة حتمية تنتقل إلى الإدارة الأميركية القادمة، وحينها تكون التعقيدات والتداعيات والتكاليف مضاعفة، ولن يسلم تاريخ الإدارة الحالية من لعنات ذلك.
وينصح الأصدقاء أميركا بالعمل الفاعل معهم لمكافحة الإرهاب ولجم أعمال إيران التخريبية – التي أدانها مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد في اسطنبول مؤخرًا – وتحقيق تطلعات الشعب السوري وإعادة الاستقرار والتنمية لمجتمعات ودول المنطقة. والأمر لا يقتصر اليوم على النصيحة فقط، بل هناك استعداد تام من أصدقائها للتعاون الوثيق (وبشكل غير مسبوق) لتحقيق هذه الأجندة البناءة لصالح الجميع.
على الرئيس أوباما إدراك أن زيارته المرتقبة للسعودية ومشاركته في قمة مجلس التعاون الخليجي، مفترق طرق، وفرصة لإدارته لتبادر وتتعامل بوضوح ومباشرة مع تهديدات المنطقة بما يحقق المصالح المشتركة لأميركا ولأصدقائها، فالقيادة السعودية والخليجية حزمت أمرها، وتحفظ لأميركا مكانها. وتتجلى شجاعة القيادة التاريخية في قدرتها على الإقدام واتخاذ القرار اللازم في الوقت الحاسم لتصويب المسار.

* أكاديمي سعودي