نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

مقبرة النظريات الاقتصادية

أهم ما ينبغي عليك معرفته بخصوص نظرية الاقتصاد الكلي - في ما يتعلق بالنمط المستخدم من جانب الأكاديميين والآخر الذي يعتمد عليه المحللون العاملون بالقطاع الخاص - أنها غير ناجحة على الصعيد العملي. في معظم الوقت، تصيب الأحداث المتعاقبة على أرض الواقع الخبراء المعنيين بنظرية الاقتصاد الكلي بالدهشة، بجانب توافر أعداد لا حصر لها من الأمثلة التي يمكنها دحض هذه النظرية. وعلى صعيد الاقتصاد الكلي، عادة ما ينحصر اختيارك بين النماذج الاقتصادية ما بين «المروع» و«الأقل ترويعًا بدرجة طفيفة».
في الواقع، من السهل اختبار مدى صحة معظم نظريات الاقتصاد الكلي من خلال مجرد إلقاء نظرة على اليابان. الملاحظ أن اليابان تملك عددًا من السمات الاستثنائية، التي تجعلها أرضية مثالية لاختبار نماذج الاقتصاد الكلي، بما في ذلك تراجع أعداد السكان، وأسواق العمل المفتقرة إلى الفاعلية، واقتصاد غير متناغم مع باقي العالم، وحكومة على استعداد لخوض تجارب اقتصادية دراماتيكية. وبمجرد أن نشرع في تفحص النظريات المستخدمة في تفسير الاقتصاد الأميركي ونطبقها على اليابان، يتضح لنا أن هذه النظريات عادة ما تفشل.
على سبيل المثال، دعونا نلق نظرة على نظرية «الأموال القابلة للإقراض»، والتي يجري تدريسها في غالبية التمهيدية بعلم الاقتصاد لطلبة الجامعات. تبعًا لهذا النموذج الاقتصادي، فإنه عندما تقترض الحكومة كثيرا من المال، فإنها بذلك تدفع معدلات الفائدة نحو الارتفاع. ويبدو هذا الأمر منطقيًا، نظرًا لأن معدلات الفائدة لا تعدو كونها ثمن الإقراض، وبالتالي فإن زيادة الطلب ينبغي أن تدفع الأسعار نحو الارتفاع. ومع ذلك، فإنه رغم الارتفاع الهائل في عجز الحكومة اليابانية وإجراءات اقتراضها منذ عام 1990، لم تتحرك أسعار الفائدة سوى نحو مزيد من الانخفاض.
وبذلك، فإن تنامي الطلب على القروض قابله تراجع في الأسعار، بدلاً من الارتفاع.
من النظريات الاقتصادية الكبرى الأخرى التي تواجه مشكلة في اليابان، ما يطلق عليه «منحنى كينزي - فيليبس الجديد»، يفترض هذا المنحنى وجود علاقة بين التضخم وفجوة الإنتاج - عندما يكون لدى كل فرد وظيفة، فإن التنافس على العمال من المفترض أن يدفع الأجور والأسعار نحو الارتفاع، وبالتالي يزيد معدل التضخم. على أرض اليابان نجد أنه منذ تولي شينزو آبي رئاسة الوزراء نهاية عام 2012، ارتفعت مشاركة قوة العمل اليابانية بصورة هائلة لتصل لمستويات قياسية.
دخلت المرأة سوق العمل بأعداد كبيرة، وتراجعت معدلات البطالة إلى 3 في المائة. إلا أنه في أعقاب فترة قصيرة من التضخم المحدود (باستثناء تكاليف الطعام والطاقة)، والتي نجحت في الوصول للهدف الذي أعلنته الحكومة رسميًا، وهو 2 في المائة - تراجع التضخم مجددًا.
وعليه، نجد أن سوق العمل المحكم لم تؤد لارتفاع الأسعار. كما أخفقت النظرية الكينزية، التي تعد المعشوق الأكاديمي الأول للمصارف المركزية بمختلف أرجاء العالم، في تفسير انخفاض التضخم في اليابان.
وبطبيعة الحال، تواجه نظرية الطلب على المال، التي روج لها ميلتون فريدمان، ويجري تدريسها لمعظم طلاب علم الاقتصاد، مشكلات كبرى داخل اليابان. تبعًا لهذه النظرية، فإن الزيادات في المعروض من المال مع المفترض أن تدفع التضخم نحو الارتفاع. إلا أنه داخل اليابان، ورغم الارتفاع المستمر في المعروض من المال، ورغم تراجع أعداد السكان، لم ترتفع معدلات التضخم.
تلك كانت جميع النظريات الاقتصادية الكبرى، لكن ماذا عن النظريات غير التقليدية؟ من بين النظريات التي لاقت اهتماما كبيرًا من جانب وسائل الإعلام نتيجة استخدامها في تحليل الخطط الاقتصادية للمرشح الرئاسي بيرني ساندرز، ما يطلق عليه «قانون فيردورن». وتدور الفكرة العامة لهذه النظرية حول أن التوظيف الكامل سيدفع نمو الإنتاجية باتجاه الأعلى. وتعتمد هذه النظرية، التي حازت تأييد نارايانا كوتشيرلاكوتا، الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس وزميلي حاليًا في «بلومبيرغ»، على ارتباطات تاريخية لدعمها.
إلا أنه عند تحويل النظر إلى اليابان سنجد أن التوظيف الكامل لم يفلح في تعزيز نمو الإنتاجية. واقع الأمر أنه منذ مطلع 2014، تراجعت إنتاجية اليابان، رغم أنه بصورة أساسية يتمتع كل فرد داخل اليابان بوظيفة.
وماذا عن نظرية «الركود المزمن» للورانس سمرز؟ من الصعب تطبيق هذه النظرية القائمة على فكرة وجود نقص دائم في الطلب، على اليابان بما تتسم به من معدلات توظيف مرتفعة، بل ومستمرة في الارتفاع.
النظرية الوحيدة التي أعرفها ويبدو أنها تبلي بلاءً حسنًا في تفسير ما يجري في اليابان - بصورة أساسية على الأقل - هي «الفيشرية الجديدة»، وهي نظرية نقدية راديكالية يروج لها العالمان الاقتصاديان جون كوكرين وستيفين ويليامسون. وتدور هذه النظرية حول فكرة أن معدلات الفائدة المنخفضة، إذا ما استمرت لفترة طويلة كافية، فإنها تتسبب في تراجع التضخم وليس ارتفاعه. وبالفعل، تتوافق تجربة اليابان الأخيرة مع هذه الفكرة. ورغم أن «الفيشرية الجديدة» قوبلت بالرفض من جانب كثير من علماء الاقتصاد المنتمين للتيار الرئيس، فإن اليابان قد توفر دعمًا لثورة كوكرين ويليامسون الاقتصادية.
في كل الأحوال، تبقى الحقيقة أن اليابان تطرح درسًا مفاده أنه من العسير للغاية أن تصدق نظريات الاقتصاد الكلي.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»