عندما يقوم الجيش الأميركي بتدريب طيارين مقاتلين، فإنه يستخدم ما يسمى اختصارا بحلقة «أو أو دي إيه»، وتعني راقبْ، وجّه، قرّر ثم تصرّف. والفكرة هي أنه لو أن قدرتك على المراقبة والتوجيه والتصرف أثناء القتال على ارتفاع 30 ألف قدم أسرع من قدرة المقاتل العدو، فسوف تسقط طائرته من الجو، والعكس بالعكس، أي أنه لو أن الحلقة المذكورة للمقاتل العدو أسرع فسوف يسقط طائرتك. وبات جليا الآن أن حلقة «أو أو دي إيه» الخاصة بنا قد كسرت ولم تعد تعمل في الأوقات العصيبة.
تعمل حلقة «أو أو دي إيه» الخاصة بنا بشكل سليم عندما تعمل أكبر ثلاث قوى في الكون - التكنولوجيا والعولمة والتغير المناخي – بشكل لا خطي متسارع ومتزامن. فالتغيرات المناخية تتزايد، والتكنولوجيا تسرّع من وتيرة كل شيء وتضخم الأصوات، في حين جعلت العولمة العالم أكثر استقلالا عن ذي قبل، ولذلك فتأثير الآخرين علينا أصبح أكبر من ذي قبل. زادت عمليات التسارع تلك من متطلبات الحلم الأميركي برفعها لمستوى المهارة ومتطلبات التعلم لكل عمل جيد يقوم به الإنسان على امتداد حياته، وعليه فقد رفع ذلك التسارع من سقف طموحات الحوكمة؛ أي سرعة اتخاذ الحكومات لقرارات وحاجتها لحلول هجينة تنتج شبكات أمان أكبر ومزيدا من المشاريع التي توفر فرص العمل. يرفع التسارع أيضا من سقف الطموحات والإنجاز المطلوب من القادة، وبذلك يتطلب الوضع قادة قادرين على اجتياز تلك المعضلة ورعاية الدول المرنة.
من منظوري الشخصي، أرى عناصر التسريع الثلاثة المذكورة بدأت تتفجر في الدول الضعيفة – كما هو الحال في بعض دول الشرق الأوسط وأفريقيا – كما أنها بدأت تهب على الدول القوية أيضا لتغيير سياساتها، وتستطيع أن ترى ذلك في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأوروبا. وفرضت التحديات التي أوجدتها عمليات التسارع المذكورة ومتطلبات إيجاد مواطنين ومجتمعات مرنة نوعا من السياسة المختلطة ما بين اليمين واليسار.
ذلك النوع من السياسة تراه بالفعل يمارس في المجتمعات والمدن الناجحة في الولايات المتحدة؛ في أماكن مثل مينيبوليس بولاية أوستن، ومدينة تكساس، ومدينة لوسيفيل بولاية كنتاكي، ومدينة تشاتانوغا بولاية تينيسي، ومدينة بورتلاند بولاية أوريغون. شكل سكان تلك المناطق ائتلافات ضمت ممثلين عن رجال الأعمال، والمدرسين، والحكومة المحلية وخرجوا بحلول هجينة لتحسين قدراتهم التنافسية، وإضفاء قدر من المرونة عليها. ليس بمقدورنا الذهاب إلى الصعيد الوطني بعد كل تلك الحماقات التي ابتلي بها أحد الحزبين الرئيسيين، وبعد أن تركنا الشلل ليصيب سياساتنا.
سقط الحزب الجمهوري في قبضة تحالف يضم إعلاميين وأثرياء من أقصى اليمين ممن شكلوا حلقة من الحوافز تشجع على السلوك السيئ، ورفضوا تماما ذلك النوع من السياسة الهجينة بأن أنكروا التغيرات المناخية، وازدروا إصلاحات الهجرة، وأغلقوا الكونغرس، وسدوا الطريق أمام مشروع أوباما للرعاية الصحية (رغم أنه بني في الأساس على فكرة طبقها للمرة الأولى محافظ من الحزب الجمهوري). افعل كل ذلك وسوف تكافأ من تلفزيون فوكس، ومن ماكينة أموال الحزب الجمهوري، أو أبعد عن كل تلك المبادئ وسوف تتطهر. بالفعل أنتجت عملية التطهير في النهاية تحالفا من المرشحين الرئاسيين عن الحزب الجمهوري الذين شاهدناهم متراصين على المسرح في أول مناظرة سياسية، ذكرتنا بمشهد حانة «موس أيسلي كنتينا» في سلسلة أفلام «حرب النجوم» الذي دارت أحداثه على ظهر كوكب «تاتوين» الخيالي والذي امتلأ بمخلوقات غريبة كل منها أغرب من الآخر يعيشون في «كوكب بعيد، بعيد جدا».
في ذات السياق، وحسبما يشير العالم السياسي جيدي غرينسيتين في حديثه عن المستوى الوطني، ونظرا للطريقة التي جرى بها الغش والتلاعب في المناطق الانتخابية من قبل الحزبين، إما لإنتاج أعضاء حزب جمهوري أكثر تحررا أو أعضاء حزب جمهوري أكثر تحفظا، فقد تحولنا إلى نظام يشجع على الاستقطاب على المستوى الشعبي ويمنع الحلول الهجينة. وفق العالم السياسي جيدي جرينستين، جلبت الولايات المتحدة على نفسها حالة من «الاستقطاب الهيكلي على المستوى الشعبي، وعليه أصبحت تعاني من الغباء الجمعي».
لدينا قضايا كبيرة يحتاج الكونغرس لأن يعالجها من خلال السياسة، وأي فشل في تحقيق ذلك سوف يضر بنا. إذن كيف نوازن بين الخصوصية والأمن؟ كيف نوسع في التجارة الحرة ونخفف من التأثير الضار الذي يلحق بعمالنا؟ كيف لنا أن نصلح من مشروع «أوباما كير» للرعاية الصحية كي يصبح أكثر استدامة؟ كل تلك القضايا تتطلب حلولا وسطى هجينة، لا حلولا دوغماتية تميل للتعصب لفكر معين.
أوباما هو الرجل الذي يدرك هذا جيدا. ورغم أنه لم يكن يوما جادا تجاه المشاريع كما تمنيت، لكنه ليس بالنموذج الراديكالي اليساري الذي ابتدعه الحزب الجمهوري. أصبح أوباما يتمتع بفطرة هجينة بأن جمع بين دعم للتجارة الحرة والهجرة لتنفيذ سياسات مشتركة لتطوير التعليم ولتوفير رعاية صحية حتى يتمتع الطلاب بحرية حركة أكبر، ولتمويل المزيد من قروض «بيل» ليتمكن عدد أكبر من الطلاب من سداد مصروفات الدراسة الجامعية، ولخلق فرص استثمار في التكنولوجيا النظيفة، ولإدخال تغييرات على القوانين الضريبية لتضييق الفجوة بين الدخول، وهي أمور لو تحققت فسوف تجعل الدولة أكثر مرونة. في الحقيقة كان بمقدورنا أن نفعل الكثير في فترة رئاسته.
المدهش بشأن دونالد ترامب هو أنه يقوم بتفجير سياسات الحزب الجمهوري، بتقديمه نوعا جديدا تماما من السياسة الهجينة، وعليه فقد أصبح رائدا؛ متحررا اجتماعيا في بعض الأمور، انعزاليا في أمور أخرى. تستطيع أن تعتبره ديمقراطيا في تعامله مع الأمن الاجتماعي، إلا أنه يقف ضد المهاجرين ومتعصب ومروج للخوف في أمور أخرى. ترامب إيجابي ويتحلى بالمسؤولية في مقترحاته بشأن الميزانية، وإن كان لأسلوبه أن يكون هجينا، فذلك بالمعنى الفوضوي الذي يروق لقاعدة الحزب الجمهوري، وليس للحكم. بيد أنه في حال استخدم ترامب ذلك في تفجير سياسات الحزب الجمهوري، لفتح الباب أمام رؤية هجينة يمينية معتدلة ناضجة وجديدة فسوف ينجح في أن يفعل ما أمره الله به. لكن أدعو الله أن يبقيه بعيدا عن البيت الأبيض.
* خدمة «نيويورك تايمز»