جمال أبو الحسن
كاتب مصري
TT

الدفاع عن النظام الإقليمي «فرض عين» سياسي

النظام الإقليمي العربي ليس كيانًا مُتخيلاً. ليس مفهومًا ينشغل به الأكاديميون والمفكرون. إنه واقع قائم على الأرض مؤسس - في المقام الأول - على قيمٍ مُشتركة، وفي المرتبة الثانية على مصالح ومنافع متبادلة. النُظم الإقليمية والدولية تلتئم في الأساس حول فكرة كُبرى جامعة. قيمة عُليا ينعقد عليها ما يُشبه الإجماع. تلك القيمة العُليا هي التي تمنح النظام الشرعية اللازمة لوجوده. من دونها يصير النظام ذاته بلا معنى. بلا خيط ناظم لمكوناته. يُصبح مجرد حاصل جمع لوحداته (الدول المشتركة فيه) من دون «قاسم مشترك أعلى».
على سبيل المثال، النظام الأوروبي الذي تأسس بعد صلح ويستفاليا (1648) اتخذ من مفهوم «السيادة»، وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فكرته جامعة. جاء ذلك نتيجة طبيعية للحروب الدينية التي اعتصرت أوروبا لثلاثين عامًا متصلة. تولدت الحاجة إلى «شرعية جديدة» تحول دون التدخل في شؤون الدول تحت ستار الدين، أو بدعوى الدفاع عن أبناء الملة الواحدة. أما النظام الأوروبي الذي تأسس بعد صلح فيينا 1815، فقد ارتكز على فكرة مختلفة: حماية العروش الأوروبية في مواجهة الأفكار الثورية التي كادت تعصف بالقارة تحت سنابك خيول بونابرت. وفيما اتكأ النظام العالمي بعد الحرب الأولى في مؤتمر فرساي 1919 على فكرة «حق تقرير المصير»، فإن النظام الذي ولد بعد 1945، الذي ما زلنا نعيشُ في ظله، تأسس على منظومة أممية ركنها الرئيس هو الدولة الوطنية ذات السيادة، وصمام أمانها مبدأ «الأمن الجماعي» كما تُجسده الأمم المتحدة، وفي القلب منها مجلس الأمن بأعضائه الدائمين.
مفهوم النظام، إقليميًا كان أم دوليًا، يعكس - والحال هكذا - قيمًا ومبادئ قبل أي شيء آخر. هذه القيم تُمثل في واقع الأمر موئل الشرعية ومناطها في النظام، ذلك أنه وفقًا لهذه المبادئ والمعايير الحاكمة يُمكن التمييز بين ما يُعد سلوكًا شرعيًا من جانب وحداته، وما يُعد خروجًا على الشرعية. وغني عن البيان أن تحديد «السلوك المشروع» يُعد عاملاً حاسمًا في استقرار أي منظومة سياسية داخلية أو إقليمية أو دولية. في ضوء هذا يثور التساؤل حول القيمة الجامعة للنظام العربي القائم حاليًا والمبدأ الناظم له.
النظام العربي القائم حاليًا تخلق في رحم الستينات وصراعاتها المريرة. تلك الصراعات التي دارت رحاها في الأساس بين نظم جمهورية ثورية، وأخرى ملكية مُحافظة، فيما أطلق عليه البعض اسم «الحرب الباردة العربية». لقد كان من نتيجة هذه الصراعات أن انكشف العالم العربي في مواجهة إسرائيل بصورة أدت إلى كارثة 1967، وهي أكبر محنة نزلت بالأمة في تاريخها الحديث. وكان طبيعيًا أن تُفرز هذه النكبة حالة من المُراجعة الشاملة للأسس التي تقوم عليها المنظومة الإقليمية التي ظهر أن تفاعلاتها عرضت أمن جميع مكوناتها لأخطار محققة، بل إن هذه التفاعلات ذاتها كادت تعصف بالنظم القائمة، جمهورية كانت أم ملكية.
الفكرة المؤسِّسة للنظام الإقليمي العربي، الذي ما زلنا نعيش في ظله إلى اليوم، هي الفكرة نفسها التي أسست لصلح ويستفاليا من ثلاثة قرون: عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول. هذه الفكرة، على بساطتها وقدمها، لم تكن واضحة في السياسات العربية. غيابها تسبب في أغلب الكوارث والمآسي التي نزلت بالأمة. لقد تبنت النظم الثورية التي نشأت في الخمسينات والستينات آيديولوجيا القومية العربية، ورأت أنها تُمثل في ذاتها «شرعية ثورية» تُبيح التدخل في شؤون الدول، بالتحريض السياسي والشحن الإعلامي والتحشيد الجماهيري الذي يستهدف الشعوب قفزًا على النظم الحاكمة، وافتئاتًا على سيادة الدول. ووصل الأمر إلى التدخل العسكري المباشر في حالة احتلال العراق للكويت في 1990، تحت الدعاوى نفسها وبتوظيف ذات الخطاب السياسي المُشبع بالقومية التوسعية.
النظام العربي - الحقيقي لا الشعاراتي أو المتوهم - اكتملت أركانه حقًا بعد طرد القوات العراقية من الكويت، وعندما نشأ محور مركزي فاعل (مصر والسعودية) يُدافع عن القيمة الأهم في النظام، ألا وهي صيانة سيادة وحداته من الدول المُستقلة. مُشاركة مصر (الجمهورية) في حرب تحرير الكويت بنحو 35 ألف مقاتل أفرزت وضعًا جديدًا أنهى للأبد ثنائية النظم الملكية في مقابل النظم الجمهورية.
انتقال مصر من المعسكر الثوري في الستينات إلى المعسكر المحافظ (أو المُعتدل إن شئت) بداية من السبعينات كان علامة فارقة في تشكيل النظام العربي القائم حاليًا. لقد جاء هذا الانتقال ليعكس تغيرًا عميقًا في السياسة الخارجية المصرية باتجاه إبرام سلام دائم مع إسرائيل برعاية أميركية. اتفاق السلام وضع مصر أوتوماتيكيا في خندق الاعتدال السياسي، وصار يُمثل دافعًا مهمًا لديها للحفاظ على الوضع القائم في الإقليم، خصوصا أن دُعاة الانقلاب على هذا الوضع طالما وظفوا القضية الفلسطينية - تمامًا كما حدث في الستينات - للنيل من شرعية النظام الإقليمي كله وهدم الأسس التي يقوم عليها. وبالتدريج، استطاع معسكر الاعتدال أن يفرض أجندة التسوية السلمية للصراع مع إسرائيل باعتبارها استراتيجية عربية، بداية من قمة القاهرة في 1996 التي أقرت السلام بوصفه «خيارا استراتيجيا»، وانتهاء بمبادرة السلام العربية التي أطلقتها الرياض في 2002. هكذا صار «خيار السلام» ركنا آخر مهمًا في بنية النظام الإقليمي القائم، الذي اكتملت أركانه بتعهدات والتزامات من جانب القوة العالمية الكُبرى بتوفير «مظلة ضمان» له.
الحاصلُ اليوم أن النظام العربي القائم يتعرض لهزة عنيفة. أخطر مظاهر تلك الهزة هو التملص الأميركي البادي من مسؤولية «الضامن العالمي». هذا التملص والانسحاب السياسي والعسكري من جانب القوى العظمى صاحبه تصاعد في دور الفاعلين الراغبين في الانقضاض على النظام. إيران هي اللاعب الأهم، وإن لم يكن الوحيد، في هذا المضمار. السياسة الإيرانية - في جوهرها - هي خطة ممنهجة لتقويض الدعائم الثلاث للنظام الإقليمي العربي، مبدأ سيادة الدول وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية، واستراتيجية التسوية السلمية للصراع مع إسرائيل، والتزام القوة العالمية العُظمى بأمن الإقليم واستقراره. السياسة الإيرانية تضرب هذه الأسس عبر توظيف الطائفية، ودعم الميليشيات من غير الدول، والتلاعب بالقضية الفلسطينية لتقويض شرعية النظم، ومُقايضة القوى الكُبرى على تجميد البرنامج النووي مقابل الإقرار بالهيمنة والتوسع.
إيران لا تُهدد دولة أو مجموعة دول، هي لا تُشكل خطرًا على طائفة، أو مذهب. التهديد الإيراني يضرب جوهر المنظومة الإقليمية وأساس شرعيتها. هذا هو المعنى الأخطر، لأنه ينطوي على تهديد موجه إلى مكونات النظام كله بصورة تكاد تكون متساوية. إيران تُبشر بنظام مختلف يُملي الملالي أجندته، ويصوغون قيمه الحاكمة التي خبرنا بعضها في السنوات الأخيرة، بداية من دعم الميليشيات وانتهاء بحرق السفارات. وعليه، فإن مقاومة التهديد الإيراني لا تُمثل دفاعًا عن دول أو نُظم حكم قائمة أو حتى طائفة دينية بعينها، وإنما هي دفاع عن المنظومة الإقليمية ذاتها. عن شرعية وجودها وقيمها العُليا. هذه المنظومة، بشكلها الحالي ومبادئها الحاكمة وقيمها المشتركة، تُعد ضرورة بقاء لأهم دولتين في المنطقة، مصر والسعودية. الدفاع عنها «فرضُ عينٍ» سياسي وأمني.