فجع الإيطاليون بتغطية تماثيلهم، فكيف لبلد يتباهى بتراثه الفني والمعماري ومدنه القديمة أن يخجل بتماثيل عارية عمرها مئات السنين. هذه التماثيل تراث إنساني جعل من روما وإيطاليا أيقونة فن عالمي. أما تلك «الحشمة» المفاجأة غير المعهودة، فهي ظهرت لأن رئيس إيران حسن روحاني سيزور متحفًا تاريخيًا. والأرجح أن السلطات الإيطالية ندمت على الخطوة بعد حملة السخط والسخرية التي بدأها الإيطاليون وانتشرت في العالم. على الأقل انعكست تبعات الانتقادات والحملات في باريس المحطة التي تلت روما في زيارات روحاني، والتي استقبلت الرجل باعتراضات ناشطين وناشطات تظاهروا وتعروا وتصوروا ضده وضد ما تمارسه إيران.
طبعا الساخرون من الخطوة الإيطالية لم يفتهم أن روما لم تظهر أي حياء في عقد صفقة الـ17 مليار يورو مع طهران، الوافد الجديد إلى أسواق العالم الشرهة. إذن، لا مانع من مراعاة «مشاعر» رئيس إيران و«حيائه» المفترض لتغطية فن عارٍ وإخفاء منحوتات خلف ألواح من الخشب. إنه حياء من نوع آخر ذاك الذي حرص عليه المسؤولون الإيطاليون، ولا يشبه ذاك الذي نفترض أن يشعر به رئيس دولة تقمع معارضيها وتسجنهم وتشارك في حروب ومعارك طائفية مذهبية يمنة ويسرة.
ما حصل في إيطاليا في هذا الوقت السياسي بالذات، أعني إقدام دولة غربية من هذا الحجم على تغطية تماثيل عارية ليس تفصيلاً، بل هو يشي بنيات أوروبية في التعامل مع إيران بصفتها صفقة تجارية فقط والتغاضي عن سلطتها وقمعها وانتشارها المسلح في أكثر من بلد ومنطقة.
هذا ليس احترامًا لخصوصية أو لمعتقد قدر ما هو نفاق ظاهر وشراهة لا تردعها أي معايير. لقد فعلتها دول غربية كثيرة سابقًا، أعني التغاضي عن جور سلطات وأنظمة أو المجاهرة بنقد لفظي فارغ في حين تحفل الكواليس بصفقات مالية شائنة. حصل هذا على مدى عقود وخبرناه تكرارًا، لكن في الحالة الإيرانية الحاصلة اليوم بات الأمر أكثر فجورًا ووضوحًا. لا نعلم إن كان الخجل سيحول دون أن يحطم المسؤولون الإيطاليون بعض تماثيلهم إذا قرر زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي أن يعقد صفقات رابحة مع روما. في الحقيقة، من حقنا أن نسخر ونبالغ ونهزأ جراء تلك المهزلة التي تابعناها بالصوت والصورة، والتي رد عليها آلاف المغردين الساخرين في إيطاليا والعالم.
المفارقة أنه لم تكد تهدأ مشاعر «الحياء» التي رافقت زيارة روحاني إلى كل من إيطاليا وباريس حتى ظهر تقرير لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» يوثق تجنيد الحرس الثوري الإيراني لآلاف اللاجئين الأفغان للقتال إلى جانب النظام في سوريا.. هنا لا حاجة لروحاني لكي يشعر بالخجل لأن بلاده تجبر لاجئين في أراضيها على القتال في سوريا ووضعهم أمام خيارين؛ إما القتال والموت في سوريا وإما العودة والموت أيضًا في أفغانستان. هذه الحقائق وثّقها التقرير بشهادات ومقابلات مع أعداد من الفتية الأفغان ممن أجبرتهم إيران على القتال، وجلهم مراهقون.
طبعا هنا لا تشعر الدبلوماسية الغربية المنافقة بأي حياء لأنها تعقد صفقة مع نظام يجند أطفالاً أفغانًا ويرسلهم إلى القتال في سوريا، فالمهم أن نغطي التماثيل ونجني المليارات. نحن هنا في بلادنا نعاني من تلك الازدواجية القاتلة، أعني أن يثور مجتمع ونظام من أجل كلمة أو رسم أو فيلم أو خيار شخصي فتهب غضبة الغيارى على أخلاق مزعومة. قد نجد من لا يأبه بأن سلطة تسحل وتسجن وتقمع معارضيها، لكنه يثور لأن امرأة ظهرت بشكل جريء أو أن كاتبًا قال رأيًا حرًا.
ما فعله المسؤولون الإيطاليون هو تمامًا ما أسهم في تكريس هذه الازدواجية لدى أنظمة قمعية كالنظام الإيراني، فرجاء أيها السادة لا تحدثونا عن الحياء.
[email protected]
8:2 دقيقه
TT
رجاء.. لا تحدثونا عن الحياء
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة