لو كان بالإمكان بناء «جدار من نار» بيننا وبين بلاد فارس، لكنا بنيناه منذ زمن، وتلك كانت أمنية الفاروق في زمانه تجنبًا للفتن والمؤامرات والحروب. ذلك الجدار لم ولن يُبنى؛ فالجغرافيا أحيانًا كثيرة لعنة! إذ لا مفر من إيران كجار مزعج متغطرس لا يحيى إلا بإثارة الفتن في محيطه. لكن علاقات «حسن الجوار» قد لا تكون الأسلوب الأنسب مع جار يفسر هذا التعامل الأخلاقي كنوع من الإذعان له أو الخوف منه.. وسكوتنا الطويل على سلوكه وتدخلاته في المنطقة قاد إلى تكوين خلاياه العلنية والنائمة في العالم العربي، مما زاد من صفاقته وغروره. ولهذا وجبت المواجهة العلنية من دون تردد أو تراجع.
أولى خطوات المواجهة تأتي ببذل جهد كبير لاستعادة أهلنا وإخواننا الشيعة العرب، ممن خُدع كثيرًا بوعوده وخطبه، إلى بيتهم الحقيقي في بلدانهم العربية، من دون تمييز أو تهميش.. فأي تهميش لأي فئة في المجتمع إنما يصبح نقطة ضعف في الصف الوطني وفرصة ثمينة يقتنصها من لا يريد خيرًا لأوطاننا، وما أكثرهم.
في حواري معه عبر «حديث العرب» على «سكاي نيوز عربية»، قبل أسابيع قليلة، ألح المفكر اللبناني غسان سلامة على هذه الفكرة مذكرًا بأن تهميش الشيعة العرب، في العراق أو غيره، إنما يقدمهم «لقمة سائغة» لإيران.
ومثلما نرفض أن تطال تهمة الإرهاب أو التكفير كل سني بسبب أفعال جماعات إرهابية مجرمة ومتطرفة، تنتمي أو تزعم أنها تنتمي للسنة، مثل «داعش» وأخواتها، فبالمثل لا بد أن نحذر من تهمة «الولاء لإيران» ضد كل شيعي عربي فقط، لأن بيننا من باع عروبته وأمته ونفسه لإيران. حزب الله و«الحوثي» ومن على شاكلتهم لا يمثلون غالبية الشيعة العرب، وما أصوات مثل علي الأمين ومحمد الحسيني (ومحمد حسين فضل الله وهاني فحص رحمهما الله) إلا أصواتا شيعية عربية أصيلة حذرت وتحذر أهلنا الشيعة العرب من الوقوع في مصيدة ملالي طهران ممن يشعلون روح «المظلومية»، ويؤججون الفتن الطائفية في كل أركان العالم العربي من أجل الهيمنة. ذلك مشروع في قلب الأجندة الإيرانية التي تستغل المذهب لتصفية حسابات تاريخية قديمة مع العرب، ومن أجل تحقيق مشروع سياسي تحتل عبره المنطقة إما مباشرة أو عبر ميليشياتها في العالم العربي!
علينا الحذر من المساهمة، بجهل أو غضب، في تحقيق هذا المشروع من خلال تنفير غالبية الشيعة العرب من أوطانهم والزج بهم في حضن ملالي إيران، وما ذلك إلا ضمن خطة طهران التي لا تتوانى عن إشعال فتيل الفتن الطائفية في بلداننا. والمنتظر من عقلاء ووجهاء الشيعة في العالم العربي، التأكد من أن ملالي طهران يعملون منذ ثورة الخميني عام 1979 لاستغلال خطاب المظلومية السائد عند قطاع واسع من أبناء الشيعة في العالم العربي، بهدف استغلالهم كأدوات لتحقيق مشاريع طهران السياسية في المنطقة.
«الجنة» التي تعد بها طهران ليست سوى جحيم في كل إيران، حيث ينتشر الفساد والفقر والبطالة والرقابة الصارمة وأحكام الإعدام. وهنا أتذكر ما قالته الأكاديمية الكويتية ابتهال الخطيب، حينما ذكرت أن أيًا من شيعة الخليج لن يقوى على العيش في إيران لأشهر قليلة، للفجوة المهولة بين رفاهية الحياة في دول الخليج وبؤسها في إيران. أما وقد رفعت العقوبات الاقتصادية تدريجيًا عن طهران، فإن ذلك لن يغير كثيرًا من سوء الحياة في إيران، لأن النظام السياسي مصرّ على عناده وعلى سعيه لهدر مقدرات بلاده في إثارة الفتن وإشعال الحروب.
انظر كيف يصطف الإيرانيون في طوابير طويلة أمام سفارات أميركا والغرب في بعض دول الجوار، أملاً في فرصة هجرة أبدية تنتشلهم من بؤس الحياة في بلادهم وتنقذهم من قمع الملالي في طهران.
الخطوة الأخرى في التعامل مع إيران هي المواجهة الحازمة مع الحكومة الإيرانية التي تمادت طويلاً في غيها واستهتارها بكل قيم الجوار وأصول الدبلوماسية. ولهذا جاء التفاعل مع قرار السعودية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام الإيراني بعد حرق مقري سفارتها وقنصليتها في طهران ومشهد، أشبه بالاحتفاء في العالمين العربي والإسلامي. ثمة قناعة شبه سائدة في العالمين العربي والإسلامي مفادها أن نظامًا مؤدلجًا كنظام الملالي في طهران لا تجدي معه سوى لغة الحزم. وهكذا نلحظ مؤخرًا تململاً - وربما قلقًا متفاقمًا - في طهران إزاء الحديث في بعض وسائل الإعلام العربية عن ظروف الأقليات في إيران، وما يتعرض له عرب الأحواز تحديدًا من ظلم وتهميش.
وتبقى فعلاً ضرورة أخلاقية أن تثار حقوق تلك الأقليات وأحوالها في الإعلام العربي وغيره. ونحن مطالبون أيضًا بإيجاد قنوات فاعلة للتواصل مع الشباب الإيراني إعلاميًا - على الأقل - فكثيرهم متعطش للخروج من سجن آيديولوجيا ملالي طهران المفروضة عليهم بالنار والحديد. هناك اجتهادات من بعض المؤسسات الإعلامية العربية، لكن هذه المهمة تحتاج إلى مؤسسات ضخمة وإمكانات كبرى وفق رؤية واستراتيجية طويلة المدى.
من الخطأ اختزال كل الشيعة العرب في أصوات شيعية متطرفة، هي أصلاً من أدوات إيران ضد المنطقة. ومن الحرص الوطني أن ننتبه، وقت الأزمات وأوقات الرخاء، لمخاطر الإقصاء أو التشكيك في أي صوت يحث قيادته على العمل الجاد، من أجل مساواة في حقوق المواطنة وفرص المستقبل!
*كاتب سعودي