بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

ألم الغموض في اختفاء الطائرة الماليزية.. وتفجير غيرها

يقفز افتراض الجريمة الإرهابية إلى الأذهان فور إعلان وسائل إعلام عالمية عن تعرض طائرة ركاب مدنية لحادث ما. وإلى أن يثبت العكس، يظل الإرهاب أول مشتبه به، حتى لو لم يسفر الحادث عن تحطم طائرة، أو مقتل أي مسافر، فكيف إذا اختفى فجأة كل أثر لطائرة ما ومن دون أي تفسير يوضح لماذا حصل ما حصل. من هنا، لا بدّ أن شعورا بالارتياح ساد أوساط المعنيين بتقصي أسباب اختفاء الطائرة الماليزية منذ السبت الماضي، خلال رحلتها «MH370» فور تناقل وكالات الأنباء الثلاثاء الماضي استبعاد احتمال الإرهاب، بعدما اتضح أن مسافرين إيرانيين على متنها استخدما جوازي سفر مسروقين غير مرتبطين بمنظمات إرهابية. مع ذلك، كما هو معروف لكل المهنيين في الإعلام، تظل المفاجأة محتملة، مثلما هو الحال مع متابعة كل قصة يحتمل أن يطرأ عليها تطور ما في أي لحظة.
ومثل كثيرين غيري، من الطبيعي أن تفتح مأساة اختفاء الطائرة الماليزية في الذاكرة جروح مآسي حالات عدة سبقتها، وتسبب غموضها بألم مبرح لعائلات ركاب طائرات تطاير حطامها بين الأرض والفضاء، وتناثرت أشلاء أحبائهم ما بين نتوء جبال وأعماق بحار ومحيطات، فلا الذين ودَّعوا التقوا من ودعوهم مجددا، ولا الذين خفّوا فرحين للمطارات استقبلوا من سارعوا لاستقبالهم ممنين الأنفس بمتعة لقاء بعد غياب، بل شهقت بالبكاء أعين المكلومين، وتيبست في لجة الألم دموع فرحة اللقاء، ثم راح السؤال يصعد من عمق روح حيرى: لماذا؟ تتبعها: كيف؟ تليها: ما الذي جرى؟ ذلك واحد من أفظع آلام البشر، ألا يعرف المرء بالتحديد، وعلى نحو دقيق، سبب فقدان حبيب بلا سبب مسبق معلوم، يمهّد للحظة الفراق، حتى حوادث الطرق التي يتكرر وقوعها كل لحظة في مشارق الأرض ومغاربها، مثل توالي الليل بعد النهار، تصعق حين تقتل بصدمة المفاجأة كل مصدوم، فهل من غرابة إن صاحت بألم يفوق سواه أنفس المفجوعين بأحبائهم المقتولين ما بين أرض وسماء: لماذا.. وكيف؟
كلا، بل الأشد ألما من ذاك الألم (AGONY) أنه يستعصي على الغياب، حتى وإن طالت سنين تغييب الموت لأحباء بفعل تحطم طائرة بركابها المدنيين. لحظة سمعت نبأ الطائرة الماليزية، وجدتني أستحضر صور ذوي ضحايا جريمة إرهابية تراكم عليها من غبار الزمن ما يفوق ربع قرن، ولم تزل لوعة العائلات المنكوبة مغمسة بألم سؤال الغموض ذاته: من الفاعل الحقيقي، ثم لماذا وكيف أمكنه ارتكاب الجريمة، وهل هناك طرف ما مسؤول عن إخفاء شيء ما؟ أسئلة ترددت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي خلال إحياء ذكرى تفجير طائرة «بانام» الأميركية بينما كانت تعبر الأطلسي فوق قرية لوكربي الأسكوتلندية (21 - 12 - 1988) وكان بوسع كل من تابع تلك المناسبة، وكنت من هؤلاء، أن يلمس كم يزيد ألم الغموض أحزان من فقدوا أحباءهم من دون معرفة سبب مقنع يخفف بعض آلامهم.
جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 مثال أقرب زمنيا. ليس ثمة غموض هنا بشأن هوية الفاعل، فمن ارتكب تلك الجريمة تفاخر بها أمام الناس أجمعين، لكن ذلك لم يخفف من وقع ألم غموض من نوع آخر، بالوسع أن تسأل أيا من ذوي ضحايا الفعل الأفظع في سجل الإرهاب، هل اقتنع بما سمع من تبريرات تنظيم القاعدة، هل خفف الشرح بعض الألم، هل غيّر شيئا من القناعات؟ الأرجح أن الجواب سيكون: كلا، كلا، ثم كلا. ولئن كانت تلك اللاءات تعني أن وضوح هوية الفاعل لم يخفف آلام عائلات الضحايا، لأن ألم «لماذا؟» يظل ينبض بقوة ألم الغموض ذاته، فإن السؤال سيبقى مؤلما لملايين المسلمين الذين لم ولن ينسوا كم رمت جريمة 11 - 9 - 2001 دينهم بالسوء، وأصابت إنسانيتهم في الصميم.
صحيح أن كوارث الطبيعة تحصد مئات الآلاف، وكذلك تفعل الحروب، وحوادث السير وغرق السفن وتصادم القطارات، لكن يبقى ألم القتل الجماعي لركاب طائرة، أو أي وسيلة نقل مدنية، أشد مرارة وأكثر استعصاء على النسيان، وغير قابل للتبرير حتى إذا وقع ضمن أجواء حرب، أو زعم من قتل أن ما وقع كان بسبب {خطأ}، كما حصل في قصف طائرتين حربيتين إسرائيليتين لطائرة ركاب ليبية (21 فبراير/ شباط 1973) فقتلت مائة وأربعة مسافرين على متنها، وأيضا عندما قصفت مدمرة أميركية (3 يوليو/ تموز 1988) طائرة ركاب إيرانية فأودت بحياة 290 مسافرا. ببساطة ليس من سبب سياسي يبرر مقتل مسافرين مدنيين على متن أي، وسيلة نقل مدنية.
صحيح أيضا أن كوارث تحطم الطائرات قديمة قِدم صناعة السفر الجوي، فوفقا لما تورده «ويكيبيديا» يرجع ما ترى أنه «أول عمل من أعمال التخريب الجوي في تاريخ الطيران المدني» إلى العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1934 عندما انفجرت طائرة «بوينغ 247» تابعة لخطوط «يونايتد» في ولاية إنديانا، وكان ركاب الطائرة سبعة أشخاص ماتوا جميعا. أما أول اختفاء لطائرة مدنية فيعود إلى الثاني عشر من أغسطس (آب) 1948 عندما اختفت طائرة تابعة لـ{الخطوط البريطانية لجنوب أميركا} فوق جبال الإنديز، وكان على متنها ثلاثة عشر مسافرا، وبقي مصير تلك الطائرة مجهولا حتى عام 2000، لكن يبقى من الغريب فعلا أن يحقق العلم ما حقق من تقدم، ويقف عاجزا عن فهم مصير طائرة ركاب تختفي فجأة، فهل يلف الغموض مصير رحلة الخطوط الماليزية (MH370) سنين طويلة تستمر طوالها آلام الغموض تحاصر من فقدوا أحباءهم وتحرمهم نعمة راحة البال؟ دعونا نأمل ألا يحدث ذلك لهم، ولا لأي إنسان في المستقبل.
[email protected]