سمير صالحة
اكاديمي ومحلل سياسي تركي
TT

خيارات تركيا في القرم

إقحام شبه جزيرة القرم في أزمة أرادتها روسيا لتعويض خسارتها السياسية في أوكرانيا بعدما فقدت حلفاءها في السلطة، مواجهة غير جديدة على الروس ودول المنطقة هناك.
روسيا، وكما يبدو حتى الآن، تناور لتحريك مناصريها في القرم باتجاه إنجاز مشروع سلخ الإقليم عن أوكرانيا وضمه إلى أراضيها في أقرب وقت، لكن المجتمع الدولي والعواصم الغربية تحديدا سارعت لرفض التدخل الروسي والاستعداد لمواجهة مفتوحة على أكثر من سيناريو.
25 عاما على تجربة الدولة المستقلة في أوكرانيا يبدو أن الروس يريدون وضع نهاية لها عبر تلقين الدرس ليس فقط للأوكرانيين، بل لكل من تسول له نفسه تعريض مصالحهم في القرم للخطر والاستخفاف بالعودة الروسية إلى قلب المعادلات الإقليمية والدولية.
موسكو التي لوحت دائما بالفيتو تحت سقف مجلس الأمن الدولي لحماية النظام السوري تردد أنها لن تتأخر في استخدام هذه الورقة مجددا لحماية نفسها هي، لكنها تحركت ميدانيا أيضا في محاولة لإثبات جديتها في تعطيل أية محاولة لإبعادها عن أوكرانيا جمهوريتها السابقة المراهنة على الغطاء الغربي لمنع الغزو الروسي.
القرم هي حديقة موسكو الخلفية ونقطة ضعف أوكرانيا، لكنها أيضا فرصة اللاعبين الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، للدخول على خط الأزمة والوصول إلى مياه حوض البحر الأسود حلمهم القديم الجديد.
فما الذي ستفعله تركيا؟
تركيا، وفي أعقاب زيارة وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو الخاطفة إلى العاصمة الأوكرانية، سرعان ما ساهمت كذلك في تنظيم لقاء موسع بين وزراء تسع دول معنية بالقضية جرى عبر الأقمار الاصطناعية في محاولة للتهدئة كونها تعرف حجم خطورة التصعيد المستمر هناكK ليس فقط على الأقلية التركية في القرم، بل على سياستها ومصالحها الإقليمية ككل.
أنقرة ترى أن المنطقة بعد نهاية الحرب الباردة لم تحقق حلمها بالأمن والاستقلال والاستقرار، لكنها ترى أيضا أن استهداف أوكرانيا على هذا النحو يعني استهداف علاقات الدول الأوروآسيوية بأكملها ويهدد الأمن والاستقرار فيها، خصوصا أن القوات الروسية بدأت عملياتها العسكرية غير عابئة بتحذيرات مجلس الأمن وتهديدات أوروبا والولايات المتحدة.
داود أوغلو يتحدث عن بديل تحويل القرم إلى سنغافورة ثانية في المنطقة في حال سويت الأزمة دبلوماسيا، لكن تحركات عسكرة شبه جزيرة القرم تتقدم على اقتراح أنقرة التي ستجد نفسها عاجلا أم آجلا مطالبة بتحديد موقفها النهائي من التطورات؛ مع من ستكون، وكيف ستتصرف؟
أتراك الإقليم لا يريدون أن يتذكروا ما تعرضوا له من مآس أكثر من مرة، وتحديدا قبل 70 عاما، على يد الروس، وهم يرفضون أن تتكرر رحلة القتل الجماعي والنفي وفقدان الهوية مرة أخرى، لذلك فكثيرون منهم يطالبون أنقرة الوطن الأم بالتحرك لحمايتهم من أن يدفعوا ثمن السياسة الروسية الجديدة في الإقليم الذي ينعم بحكمه الذاتي منذ مطلع الخمسينات والذي وفر لهم فرصة الحماية منذ انفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي عام 1991.
أنقرة في العلن تدعو موسكو للتنبه إلى أن مصالحها وحدها ليست هي المهددة هناك، بل مصالح الجميع، في حال انفجار الموقف، وهي تحرك «الناتو» ومنظمة دول الأمن والتعاون الأوروبي والمجلس الأوروبي، لكنها في السر تسعى أيضا لقطع الطريق على دائرة النار التي قد تشب وتتسع لتحرق كل ما جرى إنجازه في تركيا خلال السنوات الأخيرة.
القاعدة العسكرية الروسية في القرم لا تهدف فقط لحماية المصالح الروسية في أوكرانيا وحدها، بل هي إحدى أهم فرصها للتحرك في مياه البحر الأسود والانتقال عبر المضايق التركية إلى المياه الدافئة في حوض المتوسط وإنشاء خط ربط بين هذه القاعدة وقاعدتها الموجودة في طرطوس السورية.
من هنا بدأ البعض يتحدث عن حصول الصين على تعهد تركي بعدم السماح لقوات حلف شمال الأطلسي بعبور المضايق التركية في البوسفور والدردنيل، لكن شركاء تركيا الغربيين لن يقبلوا بأي احتمال من هذا النوع، ما دامت تركيا ملتزمة بحماية مصالح الحلفاء وتبني مواقفهم وقراراتهم حتى ولو لم تكن أوكرانيا عضوا في «الناتو».
أصوات أخرى واردة من موسكو هذه المرة تروج لاحتمال أن يتخلى الروس عن الإقليم للأتراك في حال تغيرت خارطة أوكرانيا السياسية والجغرافية، وهي كما يرد كثير من الأتراك مصيدة لن يقع فيها أحد ما دامت أنقرة تردد وباسم وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو المحسوب على تتر الإقليم، أن الثمن الذي دفعه والعبء الذي تحمله أتراك القرم يكفي ويزيد ولا بد من حماية وجودهم وعيشهم هناك بعيدا عن أي مساومات أو مواجهات تجري بين موسكو وكييف.
الخيارات التركية في أزمة القرم محدودة رغم أن السيناريوهات كثيرة ومتعددة.
حكومة «العدالة والتنمية» التي اعتمدت سياسة إحياء العلاقات بين أنقرة والدياسبورا التركية في العالم، لن تفرط بمثل هذه السهولة في الأقلية التركية في القرم حتى لا تقع في موقع عصمت إينونو، القيادي التركي اليساري العلماني خليفة أتاتورك في الحكم الذي لم يحرك ساكنا، كما يقال، إبان الحرب العالمية الثانية لإنقاذ أتراك الإقليم من المذابح التي كانت ترتكب من قبل القوات السوفياتية التي جاءت تنتقم بسبب موقف بعضهم الداعم للاحتلال الألماني لأراضي الاتحاد السوفياتي وقتها.
وأنقرة تعرف أنها أمام امتحان صعب مرة أخرى، خصوصا بعدما تراجعت نظرية «العمق الاستراتيجي» التي أطلقها داود أوغلو قبل سنوات، وهي اليوم أمام مأزق آخر يريد البعض أن يحوله إلى «حفرة استراتيجية» تعد لتركيا في القرم.
أنقرة أمام خيارات بالغة الصعوبة حيال تأزم المشهد أكثر فأكثر في الإقليم..
هناك أولا علاقاتها التجارية الواسعة مع روسيا التي تصل إلى 40 مليار دولار في العام الواحد وحاجتها الماسة إلى الطاقة الروسية تحديدا، فما الذي ستختاره إذا ما فشلت في الجمع بين حماية علاقاتها مع موسكو وإقناعها بالتخلي عن لغة التصعيد في الإقليم، والضغوطات الغربية بعدم التنكر للخدمات المقدمة لتركيا في أكثر من ملف وأزمة؟ وهل ستغرد خارج السرب إذا ما طالبها «الأطلسي» بفتح أبواب مضايقها أمام سفنه الحربية حتى ولو كانت اتفاقية «مونترو» الدولية تعطيها حق الرفض؟
هناك ثانيا علاقاتها مع أميركا تحديدا التي حاولت إقناع الأتراك بإشراكها في استراتيجيات حوض البحر الأسود منذ سنوات فرفضت أنقرة لتجنب النقمة الروسية، لكن الصورة هذه المرة مختلفة تماما. واشنطن تريد حماية قرار التحول السياسي الأوكراني الجديد لصالح الغرب، ولن تسمح لتركيا بتهديد هذا الخيار أو تعريضه للخطر حتى ولو كان الثمن إغضاب الروس أو التخلي عن كثير من التعهدات والضمانات المقدمة حول إبقاء حوض البحر الأسود بعيدا عن أي تدخل خارجي.
هناك وربما الأهم من كل ذلك الانتخابات المحلية المرتقبة بعد أقل من شهر في تركيا، والأزمات السياسية الداخلية الكثيرة التي تفرض على حكومة رجب طيب إردوغان التعاون مع واشنطن وبروكسل، وتخفيف غضبهما بسبب مشاريع القوانين والتعديلات الدستورية الكثيرة في المواجهة مع جماعة غولن إذا ما كانت تريد كسب هذه العواصم إلى جانبها في مرحلة جديدة من الحكم.
تركيا أفرحها تفكك الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات لخروجها من دائرة الخطر والتهديد الدائم والاستنفار العام للمواجهة العسكرية مع موسكو في أي لحظة، وتراجع الروس عن مطالبتهم الدائمة بتعديل اتفاقية «مونترو» لاستخدام المضايق البحرية بعد هدنة استراتيجية طويلة في حوض البحر الأسود.
لكن تركيا تدرك أنه من الصعب الاستمرار في سياسة «إرضاء الجميع والانفتاح على الجميع مرة واحدة»، في حال تأزم الوضع أكثر فأكثر.