أثناء حرب تحرير ليبيا من حكم القهر والاستبداد وقبلها وبعدها ارتكبت جرائم عدة استهدفت أفرادا ومجموعات من الشعب الليبي رجالا ونساء وأطفالا، وخلفت تلك الجرائم جروحا عميقة في النفوس والعقول وأوجدت شروخا في البناء الاجتماعي الذي كان متماسكا حتى تغولت سلطة انقلاب سبتمبر (أيلول) الذي فتح أبواب سجون التعذيب والمحاكم الثورية وممارسة القتل ونصب أعواد المشانق التي شملت العسكريين والمدنيين ثم وقعت حرب الثمانية شهور بعد اندلاع ثورة 17 فبراير (شباط) 2011 وقد تركت تلك الحرب الدامية الكثير من الآلام والعداوات والخلافات أحيانا داخل الأسرة الواحدة والقبيلة الواحدة والحي الواحد وحتى بعد انتصار الثورة لصالح قوى التغيير والتجديد الساعية لتحقيق العدل وصيانة حقوق الإنسان وتحقيق الرفاه الاجتماعي وقعت أخطاء وتجاذبات أربكت مسيرة الثورة وبدل أن تتقوى أسس دولة القانون ويتحقق الأمن والاستقرار السياسي صار من يملك السلاح هو الأكثر تأثيرا والأكثر مالا والأشد خطرا على مستقبل الدولة التي ما تزال حلما من أحلام غالبية الشعب الليبي. في مثل هذه الأجواء الملتهبة والمتأزمة لا بديل للشعب الليبي عن خيار الإنصاف والمصالحة، الإنصاف يضمد جراح من ظلم ويعيد له الاعتبار ويعوضه معنويا وماديا عما فقد خلال سنوات ظلمه وحرمانه من حقوقه الإنسانية. تحقيق الإنصاف لمن اضطهد يجعله أكثر استعدادا للعفو والتسامح مع من يشاطره الجغرافيا والإدارة والمعاهد والجامعات والأسواق والمزارع. الإنصاف يفتح الطريق نحو المصالحة الحقيقية وييسر الإقبال على دعاتها وأفكارها ويقتصر الطريق لبلوغ هدف الوئام والتلاحم بين كل الناس والذي يعد ضرورة اجتماعية يحث عليها بقوة ديننا الإسلامي وتحث عليها قيم الديمقراطية وكل النظم والتقاليد السياسية الناجحة. والإنصاف والمصالحة ضرورة سياسية أيضا لأن أي مجتمع تتنازعه الخلافات والاقتتال لأي أسباب لا يستطيع أن يبني دولة ولا يستطيع تحقيق الأمن والاستقرار الذي يؤدي إلى قيام ونجاح المؤسسات الخدمية والتي تعد أساس الدولة الحديثة.
ومن الإيجابيات التي لا شك فيها أن الشعب الليبي في غالبيته يرفض العنف ويرفض مظاهر التسلح خارج مؤسسات الدولة وقد نشر الكثير من المعلومات بشأن اتجاهات الرأي العام حول انتشار السلاح، وحول انتهاكات حقوق الإنسان، وحول الفيدرالية وجميعها بينت أن أغلبية المشاركين تقف إلى جانب إنهاء فوضى السلاح وتطالب بتقوية مؤسستي الشرطة والجيش وتقف إلى جانب ليبيا موحدة سياسيا وإداريا وأن النفط ثروة كل الليبيين ولا يجوز احتكاره لأي جهة وكل هذه الاتجاهات في الرأي العام تقول إن فكرة المصالحة ستنجح إذا أعد لها الإعداد الجيد وعبر عمل موضوعي ونزيه ومتواصل. ومن المهم أن تلعب الأمم المتحدة بخبرائها وتجاربها ورصيدها دورا مساعدا في التوصل إلى أفضل الطرق لتحقيق المصالحة في ليبيا وفى أسرع وقت ممكن. ومما يعزز الاتجاه نحو تحقيق الإنصاف والمصالحة إنجاز المؤتمر الوطني العام لقانوني العزل السياسي والعدالة الانتقالية ورغم ما في تلك القوانين من ثغرات وربما من سلبيات عند البعض وخصوصا قانون العزل السياسي الذي أثار جدلا واسعا فإن تلك التشريعات مؤشر على جدية الاتجاه نحو الإنصاف الذي تطالب به أطراف كثيرة في البلاد. وتفاعلا مع تلك التطورات التشريعية بدأت منذ عدة أسابيع عدة لقاءات وندوات بشأن إطلاق عملية حوار شامل يهدف إلى تحريك المجتمع بصورة عامة للتعامل مع مشروع الإنصاف والمصالحة تعاملا جادا باعتباره ضرورة اجتماعية وسياسية وفى نجاح هذا المشروع نجاح الثورة الليبية ونجاح بناء الدولة على أسس صحيحة. لقد عرفت شعوب كثيرة الحروب الأهلية والاقتتال واستطاعت عبر المصالحة أن تتغلب على خلافاتها وأن تصل إلى تسويات مقبولة وليبيا لم تبلغ فيها النزاعات مبلغا يصعب أو يستحيل علاجه بل ما وقع وما يقع هو من طبيعة الثورات المسلحة والخطأ الكبير أن تجهل قوى المجتمع الفاعلة في السلطة وخارجها كيف تتعامل مع الأخطاء اليومية وتضع حدا لاستمرارها واستفحالها وبداية معالجة الأزمات مهما كان نوعها هو معرفة أسبابها ثم وجود الإرادة اللازمة لمعالجتها.
* سفير ليبيا لدى بريطانيا
8:37 دقيقه
TT
لا خيار لليبيا إلا الإنصاف و المصالحة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة