د. عبد الملك بن أحمد آل الشيخ
مستشار قانوني و كاتب سعودي
TT

الفردية ومواجهة الجماعات المتطرفة!

يرى أصحاب النظرة الجماعية أن الجماعة هي القيمة المطلقة، وعليه، فإن هوية الفرد تقررها الجماعة، وهي الوسيط الذي من خلاله يتعامل الفرد مع الآخرين، وبالتالي فإن شخصية الفرد تذوب ويصبح كالآلة تحركها الجماعة متى شاءت. كما يرى أصحاب النظرة الجماعية أن الإنجاز هو نتاج المجتمع، ويتوقف دور الفرد على التعبير الضمني عن عملية التقدم الجماعية.
في حين يرى أصحاب النظرة الفردية أن الشخص هو وحده الإنجاز، فالإنجاز عندهم شيء يحققه الفرد، والفرد هو المعيار الحقيقي، وهو القيمة المطلقة، وما المجتمعات إلا عبارة عن مجموعة من الأشخاص، مع اعترافهم باعتماد نجاح الفرد على نجاح الآخرين. والفردية لا تعني «العزلة» كما يفهم البعض، التي هي انعكاس للصورة الشعبية عن الفرد الذي يرفض التعايش مع المجتمع، ويلجأ إلى الصحارى والجبال، لذلك ينبغي أن ندرك أن العزلة ليست جوهر الفردية.
والحقيقة أن الفردية لا تعني أن يسعى الإنسان في الحياة بعيدًا عن الجماعة التي من حوله، بل إن معنى الفردية أن الفرد هو العنصر الأساسي والفعال والمكون للمجتمع، وهو منبع الإبداع والتطور، لأن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأفراد، فإذا استشعر كل فرد من أولئك الأفراد مسؤوليته وكان مضطلعًا بها، تحقق للمجتمع ما يريده أصحاب النظرة الجماعية من إنجاز عام وشامل، وتحققت الفردية المطلوبة، لأنه لا يُتصور وجود مجتمع ناجح مكون من أفراد فاشلين أو غير قادرين على تحمل مسؤولياتهم.
أقول إن الفردية هي الأساس الذي ينبني عليه المجتمع، ومعنى كون الفرد مسؤولاً أن يختار بوعي وحذر، ويتحمل نتيجة تلك المسؤولية بكل تبعاتها، وما يترتب عليها. قال تعالى: «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا...» وقوله تعالى: «يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها».
لذلك قرر الإسلام قاعدة لتغيير المجتمع مبنية على تغيير الأفراد: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، فأعاد الله عز وجل تغير المجتمع إلى تغير أنفس أفراده، فإذا غير الأفراد ما في أنفسهم نحو الأفضل تغير المجتمع، والعكس بالعكس.
كما أنه لا بد من الإقرار بأن الفرد مكلف من حيث هو فرد، ومكلف من حيث إنه فرد في جماعة، وحاجة الفرد إلى الانضمام إلى الجماعة بمعنى الأمة (الجماعة المطلقة) وإلى الجماعة بمعنى الفئة المحصورة العدد (مطلق الجماعة)، وفق اختصاص معين أو منهجية معينة بانتماء فقهي أو عقدي أو أي اختصاص في أي مجال.
كما أثبت الإسلام أحكامًا على الفرد وعلى المجتمع، فخاطب الفرد في جانب التعبد وجانب الأحكام (أهلية الأداء وأهلية الوجوب)، وربطه بالمجتمع في جانب التعبد (الصلوات الخمس في الجماعة والأعياد) ونهى عن الشذوذ عن الجماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»، إضافة إلى جملة من الأحكام في الزكاة والتكافل وغير ذلك.
من هنا، لا بد من الإقرار بالحاجة إلى التوازن في العلاقة بين مسؤولية الفرد من حيث هو ومسؤوليته من حيث هو فرد في جماعة.
إن انتشار أدبيات فكر الجماعة الشمولي وسيطرة هذا الفكر على الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، سلب الشخص فرديته، وأخل بذلك التوازن المطلوب، ومكّن الجماعات المتطرفة المتسترة باسم الدين من أن تتوغل في عقول أفراد تلك المجتمعات، وخصوصًا الشباب منها، وتوهمه بأن لزوم الجماعة (جماعتهم هم) وتأويلهم للنصوص الواردة في فضل الجماعة (على جماعتهم تلك) بحيث يكون من لازم ذلك الانقياد لها بكل توجهاتها وما يصدر عنها من أوامر، وأن لزوم الجماعة تلك هو المنقذ مما فيه المجتمع من جاهلية وانحراف.. إلى آخره، فيضحون بأنفسهم من أجل الجماعة، دون بذل التفكير المطلوب فيما يُطلب منهم تنفيذه، أو فيما يتبنونه من أفكار لتلك الجماعات، ولا شك أن في ذلك تغييبًا ظاهرًا للوعي بأهمية الفرد، ووجوده وإحساسه بذاته، فحين يتحول الفرد إلى تابع لجماعة من الجماعات أو تحت لواء قيادة من القيادات يرى أنها «ملهمة» يجب التسليم لها دون تفكير، فإن مصيره أن تدفع به تلك الجماعة، وتقوده تلك القيادة لتقدمه قربانًا في مذابح السياسة والإرهاب.
وتغييب الوعي من قبل تلك الجماعات والقيادات، يأتي أيضًا باستلاب المصطلح الشرعي للجماعة، وإسقاطه على وضع تلك الجماعات المتطرفة، مع أن الواقع أن محل الإسقاط هو تنظيم في المفهوم المعاصر للحركات الإرهابية، وهو أبعد ما يكون عن مفهوم الجماعة الشرعي.
وللتصدي لحملات تغييب وعي شبابنا العربي والإسلامي، من قبل تلك الجماعات الإرهابية بكل أطيافها الدينية، فإن جزءًا مهمًا من الحل يكمن في التأصيل الشرعي لمفهوم الجماعة، وكذلك مفهوم الفردية، تأصيلاً دقيقًا وواضحًا يفوت على الجماعات المتطرفة عسف النصوص الشرعية والمصطلحات بما يتناسب مع توجهاتهم الفكرية المسيسة لتجنيد الشباب باسم الدين أو الطائفة تحت مظلة الجماعة، وكذلك تعزيز مفهوم الفردية وحق الفرد في استقلاله الفكري المنضبط ووضع الآليات المناسبة لترسيخ ذلك في عقول نشئنا بأسلوب سهل يتناسب مع القدرات الذهنية لجميع فئات المجتمع. عندها نطمئن بإذن الله إلى أن عالمنا العربي والإسلامي سائر على الطريق الصحيح، وعندها أيضًا سينحسر المد الانتحاري بإذن الله، ويصبح حب الحياة وعمارة الأرض والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن الدافع إلى الإبداع الفردي والإقدام والتضحية، لا حب الموت!