د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

رص الصفوف في فيلنيوس

استمع إلى المقالة

لم تكن لمدينة فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، أن تظهر في الإعلام العالمي لولا أنه انعقد في ظلها مؤتمر حلف الأطلنطي نتيجة الصدفة التاريخية التي تجعل اجتماعات القمة تتواتر حسب ترتيب كل دولة بحيث يكون لكل منها نصيب وحظ في مكان على قمة العالم. ولكن القضية لم تكن الترتيب فقط، ولكنها لأن دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا)، باتت من الناحية الاستراتيجية في مواجهة روسيا خلال الحرب الروسية - الأوكرانية. وفي الحقيقة إن وجودها «الجيوسياسي» على هذا النحو كان فيه قدر من الإنكار للحجة الروسية في الحرب أنها نشبت نتيجة رغبة حلف الأطلنطي في التوسع بضم أوكرانيا فيكون لصيقاً بالأراضي الروسية. الواقع الجغرافي هو أن دول البلطيق بالفعل دخلت مبكراً منذ خلاصها من السيطرة «السوفياتية» إلى حلف الأطلنطي في خطوة أقلقت روسيا ولكنها لم تؤدِّ إلى غزو مسلح. الغزو بعد ذلك أخذ أسباباً أخرى تاريخية لها علاقة بروسيا القيصرية، والمكانة الخاصة لأوكرانيا في الدولة السوفياتية التي خلقت تداخلاً سكانياً وثقافياً. ويعرف التاريخ أن دولاً ومدناً تأخذ مكانة تاريخية لأنها كانت مكاناً لاجتماعات حاسمة في أثناء صراع دولي فيه الحياة والموت. «مالطا» و«يالطا» تقرر فيهما مصير العالم بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ اجتمع في الأولى رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت، مع ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، في نهاية يناير (كانون الثاني) 1945، حتى يجتمعا مع جوزيف ستالين في الثانية التي تقع في شبه جزيرة القرم على حافة الحرب الحالية. الآن هل تأخذ فيلنيوس هذه المكانة التاريخية بسبب اجتماعات القمة؟

في الحروب هناك ما يسمى «ضباب الحرب أو Fog of War»، ولا يعود ذلك إلى تلك الأتربة التي تثيرها حركة المدرعات والعربات الكثيرة، أو حتى الاستخدام الكثيف لقنابل الدخان لإخفاء التحركات؛ وإنما لأن الأمور والمعلومات تختلط لدى القادة فتَنتج عنها حالة من عدم الوضوح العقلي لحقائق موجودة في الواقع. من ذلك، أو ربما أكثرها خطورة، اختلاط ما هو استراتيجي بما هو تكتيكي، أو ما بين الكلي والجزئي، بين ما هو آنيٍّ وحاليٍّ وما هو قابل للتأجيل. ولم تكن الحرب الروسية - الأوكرانية استثناءً من هذه القاعدة، فمن ناحية فإن نتائج الحرب الفعلية من عمليات عسكرية، ومن تحركات سياسية تبرر الحرب أو تهاجمها، لم تكن كلها محسوبة؛ ومن ناحية أخرى فإن نتائج العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا كانت لها نتائج تتعدى بكثير الضغط على موسكو وتصل إلى أزمات في الطاقة والغذاء وسلاسل التوريد وموجات تضخم كافية لتهديد الاقتصاد العالمي. وفي هذه اللحظة من الحرب فإن قضايا جديدة تصبح ملحّة وتفرض نفسها على جدول أعمال الدول ومصالحها الاستراتيجية؛ ومنها كان الموقف السلبي الذي اتخذته تركيا فيما يتعلق بانضمام السويد وفنلندا إلى حلف الأطلنطي، وفي المقابل المطالب التركية بعضوية الاتحاد الأوروبي والحصول على أسلحة من الولايات المتحدة يقع في مقدمتها طائرات «إف – 16». القضية الأخرى كانت الطلب الأوكراني أن تكون هناك «خريطة طريق» لانضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلنطي.

كلا الأمرين لم يكن سهلاً، وهناك تعقيدات خاصة تخص كلاً منهما يمكنها أن تسبب «ضباب الحرب» الذي قد يجعل القضايا الثانوية تأخذ المقدمة على ما هو جوهري واستراتيجي. فغالبية الدول الأعضاء في حلف الأطلنطي بات هدفها انتصار أوكرانيا في الحرب، وإضعاف روسيا في عمومها. وهنا فإنه رغم أن تركيا كان لها موقف واضح من الحرب إلى جانب أوكرانيا حيث كانت شبه جزيرة القرم جزءاً من الإمبراطورية العثمانية وقامت روسيا القيصرية بانتزاعها؛ فإن روسيا كوَّنت مصالح معقَّدة مع روسيا بعضها يقع في سوريا وبعضها الآخر يقع في مجال التسليح. أصبحت هناك علاقة شبه خاصة بين رئيس تركيا رجب طيب إردوغان، وفلاديمير بوتين، رئيس روسيا. وفي جانب آخر من التعقيد فإن تركيا وجدت أن السويد تتبع سياسات إزاء «حزب العمال الكردي» المناوئ للدولة التركية تتناقض جذرياً مع السياسة التركية التي تعده حزباً إرهابياً. السويد بسياساتها الليبرالية عدّت إعطاء أعضاء الحزب حقوق اللجوء السياسي إليها أمراً يقع في صميم السياسات الداخلية السويدية التي لا يجوز العبث بها. هذا التناقض بين الموقفين دفع تركيا إلى التلويح برفض انضمام السويد إلى حلف الأطلنطي الذي يستوجب الإجماع من جميع الدول الأعضاء. انتهى الأمر إلى صفقة كبرى بمقتضاها توافق تركيا على انضمام السويد إلى الحلف، مقابل: أولاً الحصول على خريطة طريق للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحصول علي طائرات «إف – 16»، وعقد مفاوضات مشتركة تركية سويدية من أجل مقاومة الإرهاب. المكسب الرئيسي كان من نصيب حلف الأطلنطي الذي زعمت روسيا أن توسعه في اتجاه أوكرانيا كان سبباً في الحرب، فكانت الحرب سبباً في توسعه بانضمام السويد وفنلندا وكلتاهما تمثل إضافات مهمة للقوة العسكرية للحلف الكبير.

قضية أوكرانيا، المتعجلة في الحصول على مقعد في حلف الأطلنطي أو خريطة طريق لتحقيق ذلك، كادت تهدد بانقسام الحلف، لأن بعض أعضائه رأى أن الاستجابة الإيجابية للطلب الأوكراني كفيل بردع روسيا؛ ولكنّ بعضاً آخر يشمل الولايات المتحدة وألمانيا رأى في ذلك دخولاً من الحلف في حرب مع روسيا سوف تكون أولاً متعجلة، وثانياً سوف تكون مروعة؛ لاحتوائها على احتمالات المواجهة النووية. المرجح هنا أن الدول المعارضة فضلاً عن أنها ملتزمة بمد أوكرانيا بالسلاح، فإنها لا تريد تجاهل الإمكانيات الدبلوماسية والسياسية لإنهاء الصراع. كان منح العضوية لأوكرانيا سوف يمثل تصعيداً كبيراً مع روسيا، وإحباطاً أكبر لإمكانيات التقارب مع الصين. لم تحصل أوكرانيا على ما تريده، ولكنها حصلت على المزيد من المال والسلاح.