سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الكولونيالية والجمال

استمع إلى المقالة

لماذا علينا أن نذهب إلى «المتحف البريطاني» كي نرى حجر رشيد، وأن نزور ألمانيا كي نرى واحدة من أعظم البوابات التاريخية في منطقتنا هي «بوابة عشتار»، وأن نذهب إلى «متحف اللوفر» لنرى أثمن التحف الإسلامية؟ هل هي مسلَّمات، علينا أن نرضخ لها، لأنَّ المطالبات لغاية اللحظة لم تثمر.

ثمة ما يدعو فعلاً للتفاؤل. فالحملات تتصاعد على المتاحف الغربية، وتتبلور الاتهامات بالتزوير والتحوير وإخفاء الحقائق، مما يجعلها في حرج متزايد. كانت الطلبات الخجولة في سبعينات القرن الماضي، تكتفي بحثّ المتاحف على إعادة بعض القطع المنهوبة، إلى أصحابها الأصليين، وهو ما لم يلق آذاناً مصغية. اليوم ثمة دراسات ولجان وهيئات وندوات تعقد، ودول تفاوض لبلورة آليات لإعادة الثروات التي سرقت وإثبات أن بقاءها في أوروبا وأميركا الشمالية هو ظلم لا يمكن أن يستمر.

اضطر إيمانويل ماكرون عام 2017 لإطلاق مشروع إعادة الممتلكات الثقافية الأفريقية إلى بلدانها الأصلية، والبحث في قوانين تسهّل هذه الخطوات. مع ذلك لا يبدو التنفيذ سهلاً، في أي من البلدان الغربية التي تظهر حماساً لإنصاف المسروقين، لكن عندما تصل لحظة التنفيذ تلحظ أن العوائق لا تزال كثيرة.

موضوع الاعتراف بالسرقات شيء والتراجع عنها أمر آخر، يحتاج مصارحة للذات، وإعادة قراءة للتاريخ، وتصحيح للمسار. فقد أعادت ألمانيا مئات القطع لدول أفريفية في السنوات الأخيرة لكن الباقي كثير جداً. في فرنسا وحدها 90 ألف قطعة أفريقية، ينظر إليها على أنها قطع فنية، لكنها في حقيقة الأمر، هي أدوات للاستخدام اليومي، أو رموز دينية، وأقنعة، وتماثيل لها وظائفها التي بنقلها من مكانها نزعت عنها، وأخرجت كلياً من سياقها.

الدراسة التي كلَّف بها الاقتصادي السنغالي فالوين سار والفرنسية بنديكت سافوي، وصدرت عام 2018 أصابت الأوروبيين المهتمين بالذهول. فقد تبيَّن أن الغالبية الساحقة من التراث الأفريقي لم يعد موجوداً في القارة السوداء، بل نُهب ونُقل إلى الغرب، بحيث أصبح على الأفريقي الذي يريد أن يتعرف إلى تراثه أن يذهب إلى أوروبا. وهو ما أعطى أصحاب حملات «تحرير المتاحف من الاستعمار»، الحجة الكبرى ليس فقط للتصعيد، لا بل للهجوم.

الناشطة، وأستاذة العلوم السياسية فرانسواز فرجيس، كشفت في كتابها «برنامج الاضطراب المطلق» فضائح تصعب مدارتها. تستغرب كيف أن النهب طال كل شيء، نجد اللوحات وقطع الأثاث والتماثيل وحتى البقايا البشرية والجماجم والعظام والشعر، وكلها آتية من عدة قارات ومختلف العصور. لهذا تعتبر أن المتاحف الغربية بصيغتها العالمية الحالية هي مكان لـ«العنف الآيديولوجي»، و«مستودعات لصوص» و«قبور شاسعة لا يزال موتاها غير مدفونين».

وتذهب فيرجيس أبعد من ذلك، حين تقول إنَّ المتحف الغربي «هو أداة للسيطرة التي يجب، من الآن فصاعداً، تفكيكها في عالم ما بعد العنصرية وما بعد الرأسمالية».

لكنها في الوقت نفسه، ترى استحالة ذلك، على المدى القصير، لأن إنهاء الفكرة الاستعمارية لا يتم بنزع لوحة عن حائط أو إعادة قطعة أثرية سرقت إلى أصحابها، وإنما هي ذهنية متكاملة، تتخفى وراء طريقة عرض المقتنيات، والشروحات التي تقدم من خلالها المعروضات، والسياق الذي توضع به. ثم إن الذهنية الاستعمارية تغزو الأدب والسياسة والخطابات ورؤية رجل الشارع العادي. لهذا تسأل هذه السيدة ذات الأصول الأفريقية من جزيرة ريونيون، التي نتمنى لو كان لنا من يشبهها في العالم العربي. لماذا لا نرى لوحات ومعروضات تثير المشاعر، وتظهر بوضوح عنف الاستعباد الذي تعرض له السود. وهي تتهم المتاحف بأنها تقدم روايتها الهفهافة والنظيفة للتاريخ، وتعفي زائرها من آلام كثيرة، وموبقات وجرائم والكثير من الدماء التي سالت بسبب المظالم الاستعمارية.

الأرقام تزيد من كمية الغضب. ليست مصادفة أن 60 في المائة من متاحف العالم موجودة في الغرب، وأن دولاً أفريقية ليس عندها متاحف على الإطلاق، وبعضها بدأت تؤسس الآن وتطالب بتراثها، لأنه لم يترك لها ما تعرضه. الأسئلة تطال كل مجال، تقسيم الزمن في المتاحف، ترتيب أجنحتها، كلها تحددها النظرة الغربية، وهو ما أخرج أمماً من التاريخ، وألقى الضوء على شعوب أخرى. لأنه لا يوجد استعمار وإمبريالية من دون مصادرة وسطوة.

هكذا تصبح المتاحف، التي زيارتها جزء من التقاليد السياحية والتكوين الثقافي للإنسان الأوروبي، أداة للهيمنة والتسلط. بحيث أن صاحب المتحف الذي يملك سلطة تقديم الرواية هو الذي يتحكم بالعقول، باسم الفن والجمال والحرية.

فباسم الحرية والعقلانية، تم السطو على كل هذه الثروات منذ زمن نابليون، الذي حمل ما طاب له من مصر وباقي المستعمرات. فالثورة الفرنسية بمبادئ الحرية سطت على الكنوز على اعتبار أن باقي الشعوب لا تتمتع بالوعي الكافي لتحفظ آثارها أو تدرك أهميتها، فحمل المبعوثون والمنقبون والدبلوماسيون والمؤرخون، كل ما وقع تحت أيديهم.

حملات تحرير المتاحف من الاستعمار، الأفريقية في الغرب اليوم متقدمة على الحملات العربية، لكنها تمهد لها الطريق. وقد طالبت مصر كثيراً، ولها دَين رهيب في أعناق المتاحف، ومثلها العراق، والهند. لكن المشوار لا يزال في أوله، ويحتاج نفساً طويلاً.

الكلام جاد إلى حد أن هناك من يسأل إن كانت المتاحف العالمية الغربية، ستفرغ ذات يوم، من محتوياتها حين تعيد للشعوب ما سرقته ونهبته وجمعته عندها. وبينما تتم هذه العملية التي تحتاج مراجعة صادقة، يقول المطالبون الأفارقة: «ليس لكم أن تسألوننا ما سنفعل بتراثنا وآثارنا ورموزنا، هي حاجياتنا ترد إلينا، ومن حقنا أن نفعل بها ما نشاء، بما في ذلك أن ندعها تذهب هباء الريح». فكلٌ حرّ بما له. بما في ذلك الاعتراف بحق أن بعض الأشياء تفنى، والمخيلة البشرية أكبر من أن تنضب، بل هي خصبة وولاّدة.

حقاً، إن كل شيء يتغير، حتى معنى الذهاب إلى «المتحف».