داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

خارج الخريطة السكانية

في كل العصور كان كبار السن يحظون باحترام المجتمعات المدنية والقبلية والقروية، والإنصات إلى نصائحهم وخبراتهم وأفكارهم. وكلمة «كبير السن» لا تنال من شخصية أي رجل أو امرأة بأي سوء، بل على العكس تعني الحكمة والوقار والخبرة. لم تكن «الشيخوخة»، في يوم من الأيام، فيها أي مساس بأي رجل كبير السن، ولا مَدعاة إلى إنكارها. لقد قالها المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي منذ نصف قرن: «عيرتني بالشيب وهو وقار».
رفعت «الأمم المتحدة» شعاراً يقول: «السلام والكرامة والمساواة على كوكبٍ ينعم بالصحة». ومن الطبيعي أن يكون توفير هذه الأهداف الأربعة لسكان العالم ليس سهلاً ولا بقياس واحد. وتتوقع المنظمة الدولية أن يكون واحداً من كل ستة أشخاص في العالم من الجنسين، فوق سن 65 عاماً، في سنة 2050.
وفي إحصائية للأمم المتحدة، فإن اليابان تتصدر قائمة بعشر دول، بنسبة 28 في المائة الأكبر سناً من 65 عاماً، من إجمالي عدد السكان في عام 2019 (وهي آخر قائمة منشورة)، تليها إيطاليا 23 في المائة، والبرتغال وفنلندا 22 في المائة، واليونان 21 في المائة، وألمانيا وبلغاريا وكرواتيا ومالطا، وأخيراً فرنسا، 20 في المائة.
لعلَّه أمر غريب؛ أن تكون الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والصين والهند وأستراليا ودول أميركا الجنوبية، وجميع الدول العربية، ليست في القائمة، أو أنها في مراكز متأخرة. ويرجع انخفاض عدد المواليد، وزيادة عدد كبار السن في بعض الدول، إلى نمط حياة سكان هذه الدول. وأفضل مثال هو اليابان التي ينخفض فيها معدل المواليد إلى أقل من 1.5 مولود لكل امرأة؛ لأن اليابانيين يعطون الأولوية للعمل على الزواج والحياة الأسرية، لكن اليابان تتصدر قائمة كبار السن للسبب نفسه.
وللأمر أكثر من وجه؛ فالدول التي لديها نسبة كبيرة من كبار السن تعاني من عدة مشاكل؛ من بينها نقص القوى العاملة، بالإضافة إلى تحمل نفقات رعاية المسنين، ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة العبء الضريبي على السكان الأصغر سناً.
وبالعودة إلى إحصائيات قديمة، نجد أن عدد الأشخاص بعمر الستين عاماً أو أكثر، ازداد ثلاثة أضعاف منذ عام 1950، إذ وصل إلى 600 مليون في عام 2000، وتجاوز رقم 700 مليون منذ عام 2006، ومن المتوقع أن يصل عدد كبار السن والمسنين مجتمعين إلى 2.1 مليار نسمة بحلول عام 2050.
وتختلف الرعاية الاجتماعية والصحية والمالية للمسنين من بلد إلى آخر، حسب ظروف البلد الاقتصادية، والمقصود بالرعاية هو توفير احتياجات المُسِنّ بين طويلة الأجل أو دور التمريض والعجزة، إلا أن تطور المجتمعات الحديثة أدى إلى قيام الدولة أو المؤسسات الخيرية بأخذ الأمر على عاتقها بسبب التشتت الجغرافي العائلي، وخاصة مع ظاهرة الهجرة الواسعة تحت ظروف السياسة والحروب التي تستدعي اهتماماً خاصاً بكبار السن. فالأولوية دائماً للمواطنين المقيمين في أي بلد، ثم ضيافة اللاجئين والمهاجرين والعاجزين من الأُسر التي تضم كبار السن ونساء وأطفالاً قد لا يتقنون، في الغالب، لغة الدولة التي لجأوا إليها. وفي حالات تجنس اللاجئين فإن مساحة الرعاية تشمل الصحة والتعليم والسكن والنقل ومساعدات مالية، إذا سمحت بذلك قوانين وإمكانيات الدولة المضيفة. وقد ازدادت هذه الضغوط في السنوات الأخيرة، وامتدت لتشمل قارات آسيا، بالإضافة إلى أوروبا وأميركا وأستراليا، وبعض دول أميركا الجنوبية. وفي كل هذه الحالات يمكن الاستعانة بمكاتب الإغاثة، التابعة للأمم المتحدة، رغم أن المنظمة الدولية تعجز، في أحيان كثيرة، عن تقديم الرعاية الإنسانية المناسبة للاجئين، وهو ليس موضوعنا، لذلك نعود إلى كبار السن؛ وهو موضوع المقال.
مع أن أوروبا تعتبر نوعاً ما قارة مرفَّهة تستحق أن تكون الاختيار الأول للمهاجرين من كبار السن، فإنها تشكو من شيخوخة السكان، وحذَّر خبراء كثيرون من أن أوروبا قد تواجه خطر الفناء الديموغرافي. ويقول تقرير أوروبي إن ناقوس الخطر يدق بسبب مشكلة تجاوز أعمار السكان سن الخامسة والستين، من إجمالي سكان أوروبا. وذكر التقرير أن 12 في المائة من سكان أوروبا كانوا في سن الخامسة والستين في عام 1950.
أما اليوم فقد تضاعفت هذه النسبة، بحيث تؤكد التوقعات أنه في عام 2050 ستصبح نسبة السكان الذين تتجاوز أعمارهم السبعين، أكثر من 36 في المائة، وهذا يعني أمراً واحداً؛ أن أوروبا تشيخ! والسبب أن الأوروبيين يعيشون ليبلغوا أعماراً أطول الآن إلى 78 عاماً في المتوسط، ارتفاعاً من 66 عاماً في الخمسينات من القرن الماضي. وقد يكون هذا علامة ازدهار، كما نقلت قناة الجزيرة القطرية، لكنه أدى إلى مجموعة من المشاكل الاجتماعية والمالية للقارة؛ أهمُّها تقلص العاملين في رعاية كبار السن، مع ازدياد الحاجة إلى الرعاية، وهو اختلال بين العرض والطلب، ما يشكل تحدياً هائلاً للدول سريعة التقدم في العمر مثل ألمانيا وفنلندا والمملكة المتحدة. وهناك فرق كبير في هذا التحدي بين دول أوروبا الشرقية ودول أوروبا الغربية، وخاصة في الدول الإسكندنافية؛ حيث تقدم حزمة متطورة من الخدمات الحكومية وخدمات القطاع الخاص في منازل كبار السن. بينما يعتمد كبار السن في معظم الدول الشرقية على منازل الأبناء والأقارب؛ حيث يقدمون المساعدات الاجتماعية، بالإضافة إلى الاستعانة بالمؤسسات الصحية والطبية.تقول مبادئ الأمم المتحدة، المتعلقة بكبار السن: ينبغي تمكين هذه الشريحة من التمتع بحقوق الإنسان، والحريات الأساسية، والعلاج، والاحترام التام لكرامتهم ومعتقداتهم.
ولحسن الحظ أن هناك دولاً أخرى تبحث دائماً عن حلول مبتكرة، فسنغافورة - مثلاً - من أسرع المجتمعات نحو الشيخوخة في العالم. ولمساعدة القوى العاملة في مواجهة تحديات شيخوخة السكان، استثمرت الحكومة إمكانياتها في مبادرات «التعليم مدى الحياة»، ووفقاً لهذا الشعار تقدم بعض الجامعات دورات ذات صلة بالصناعة يمكن أن يلتحق بها حتى الذين مضى على تخرجهم أكثر من ثلاثين عاماً، كما يمكن لأهل سنغافورة استخدام نظام المعاش التقاعدي السنوي للتأمين على المدى الطويل، الذي يوفر لهم مدفوعات شهرية حتى نهاية حياتهم. وترفع الحكومة شعاراً آخر أكثر تطميناً: «بغضّ النظر عن المدة التي تعيشها، فلا داعي للقلق أبداً»!
ولجأت الصين مؤخراً إلى رفع سن التقاعد تدريجياً، بعد زيادة أعداد كبار السن إلى 400 مليون نسمة، كما قالت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية، وبذلك دخلت الصين، لأول مرة، «مجتمع الشيخوخة العالمية».
أين نحن العرب من هذا المصير؟ عدا دول الخليج العربي التي تقيم وزناً وقيمة ومكانة لكبار السن، فإن سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا والسودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر خارج الخريطة السكانية إلى إشعار آخر.