الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

لو كان للسودانيين سبيل للفرار

أفكر، وأنا أتابع صور الرعايا الأجانب الساعين للخروج من الخرطوم عن طريق أي وسيلة تتوفر لهم، بمصير ملايين السودانيين المتروكين، الذين لم يسعفهم الحظ للحصول على جواز سفر أجنبي، يتيح لهم الخروج من هذا الجحيم الذي هبط عليهم، بسبب حرب «الإخوة» المتقاتلين، الذين تحولت قذائفهم ومقاتلاتهم وأسلحتهم التي تم شراؤها بأموال السودانيين إلى أدوات لقتلهم.
والأخطر من هذا والأسوأ أن كل التقارير التي نقرأها تشير إلى أن الحرب التي اشتعلت بين الجيش السوداني و«قوة التدخل السريع» ستعود بدرجة أكثر حماوة، بعد انتهاء الهدنة التي تم الاتفاق عليها لإجلاء الرعايا الأجانب، وبعد أن يدير العالم عيونه إلى وجهة أخرى، ما يعطي انطباعاً أن هؤلاء المتقاتلين مستعدون للرأفة برعايا الدول الأخرى والاستجابة لرغبات حكوماتها، أكثر من الاستعداد للرأفة بشعبهم. بل إن كل شيء يشير إلى أن حرب الجنرالين لن تتوقف إلا بانتصار أحدهما على الآخر، أي أن السودان موعود بسيل من الدماء قبل أن تنتهي هذه الموجة من الحرب العبثية.
حكومات تسارع لفعل المستحيل لإجلاء من يحملون جنسياتها، لأنها تشعر بالمسؤولية عن أرواحهم، حتى لو كانوا يقيمون أو يعملون في بلد بعيد، ليس سهلاً دائماً الوصول إلى مطاراته أو مرافقه، في حالة اقتتال داخلي كالذي يجري في السودان. في بريطانيا، ارتفعت الأصوات التي تنتقد حكومة ريشي سوناك لأنها تأخرت في إجلاء حاملي الجواز البريطاني، فيما كانت أولويتها إجلاء موظفي السفارة البريطانية في الخرطوم.
هكذا تتصرف حكومات العالم بمسؤولية حيال مواطنيها، فيما نجد حكومات في منطقتنا لا تعير اي اهتمام لمصلحة شعوبها، ولا تتورع عن اشعال الحروب وتدمير البلاد لغاياتها الذاتية ومصالحها الأنانية التي لا صلة لها بمصلحة البلد وأهله. والمستغرب أن تأتي النداءات لوقف الحرب في السودان من الخارج بدل أن يكون الدافع لوقفها قرار داخلي من قادة السودان أنفسهم.
وهكذا وجدنا الأمين العام للأمم المتحدة ومسؤولين غربيين يدعون البرهان و«حميدتي» إلى الرحمة بشعبهما، ووقف هذه الحرب التي لم يفهم أحد مبرراً لها سوى التنازع على السلطة والثروة، فيما البلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، يفترض أن يكون همّ المسؤولين العمل على معالجتها.
والمستغرب أكثر من هذا أن جنوب السودان، الذي خاض حرباً مع الشمال، كما خاض الشمال حرباً عليه، كلفت الكثير من الأرواح والثروات ومزقت البلد، الذي كان أكبر بلدان أفريقيا قبل انفصال الجنوب عام 2011، تحول إلى وسيط، وأصبح من بين الدول والمنظمات التي تسعى لإنهاء القتال الدائر بين من كانوا يتشاركون المواطنة في الماضي غير البعيد مع أبناء الجنوب، فيما تستعد عاصمة جنوب السودان جوبا لاستقبال مفاوضات موعودة بين الجانبين، على أمل التوصل إلى صيغة لإنهاء هذه الحرب... يا للمفارقات ولانقلاب الأزمنة!
السودان هو طبعاً آخر الأمثلة عن المصائب التي تضرب دولاً في منطقتنا، بسبب أنانية حكامها وسوء إدارتهم لشؤون شعوبهم، حيث تعلو الدعوات إلى التعقل الآتية من الخارج على سياسات الإهمال وانعدام المسؤولية في الداخل.
وكم مرة سمعنا نداءات مسؤولين دوليين لحكام لبنان مثلاً للرأفة بشعبهم، ودعوات لهم مثل: «ساعدونا كي نستطيع مساعدتكم»، ولا من يسمع، رغم حال الانهيار الاقتصادي، التي تضع لبنان في طليعة الدول التي تعاني أعلى معدلات الغلاء في العالم، وحالة من الفقر تضرب أكثر من ثلثي أبنائه.
تدفعني الرغبة بالمقارنات إلى استعارة عبارة «حرب الإلغاء» التي أُطلقت على المعارك التي دارت في لبنان في مطلع التسعينات من القرن الماضي، بين الجيش اللبناني الذي كان بقيادة العماد ميشال عون و«القوات اللبنانية» التي كانت بقيادة رئيسها الحالي سمير جعجع. «الإلغاء» الذي كان شعار تلك الحرب، هو كما يبدو الهدف الذي يدفع الجنرالين المتقاتلين في السودان إلى الحرب بهدف إخضاع أحدهما الطرف الآخر أو القضاء عليه!
وكل هذا الاقتتال يجري في ساحة آهلة بعشرات الملايين من المدنيين، سواء في الخرطوم أو في مناطق السودان الأخرى التي وصلتها المعارك، حيث تحول السكان إلى «رهائن»، لا سبيل لهم للفرار، مثل سكان دول أخرى في منطقتنا أصبحوا «رهائن» في يد حكوماتهم، لا أمل لهم بالخروج، إلا بتأشيرة من دولة ما أو فرصة عمل في أي مكان يؤمن لهم سبيلاً إلى حياة كريمة، لا يحلمون بعد الحصول عليها بالعودة إلى البلاد التي نشأوا فيها.
ملايين من النازحين الذين لم يتوفر لهم جواز السفر الأجنبي الذي أصبح حلماً لكثيرين، يعبرون الحدود أو تحملهم «قوارب الموت» إلى بلاد أكثر امناً. استعداد للتضحية بالحياة بدل البقاء في أوطان لا توفر إلا فرصة العيش الذليل.
هل لنا أن نتخيل عدد من سيغامرون بالبقاء في أوطانهم المنكوبة بحكامها، لو فُتحت مطارات هذه الدول لكل راغب بالمغادرة؟!