د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

تسريبات «البنتاغون» وتجليات «الجيل زد»

أثارت الوثائق المنسوبة لـ«البنتاغون» الأميركي والاستخبارات الأميركية اهتماماً كبيراً، لما تضمنته من معلومات ذات طبيعة حساسة، ذات صلة مباشرة بالأمن القومي الأميركي، وعلاقات الولايات المتحدة بكثير من الحلفاء، والأزمات الكبرى في العالم؛ لا سيما الحرب الأوكرانية. غير أن مضمون الوثائق على الرغم من أهميته، لا يمثل الجانب الوحيد المثير، فهناك الطريقة التي تم بها هذا التسريب، وهو ما أوضحه تحقيق «الواشنطن بوست» المنشور في 13 أبريل (نيسان) الجاري. وخلاصة ما فيه أن الشاب ذا الواحد والعشرين عاماً الذي أتيحت له فرصة الاطلاع على وثائق سرية، بحكم وظيفته في الحرس الوطني، والمولع بالأسلحة، والمؤسس لإحدى غرف الدردشة على منصة «ديسكورد» للألعاب، كان يقوم بنسخ محتوى كثير من الوثائق يدوياً، وشرح ما فيها لأعضاء المجموعة طوال العام الماضي باسم مستعار، وهو «أو جي»، ثم حين لم يجد تفاعلاً من أعضاء المجموعة، سعى لجذب الاهتمام من خلال تصوير نسخ من تلك الوثائق الحساسة التي أمكنه الوصول إليها ونشرها في غرفة الدردشة، وطلب من أعضائها عدم إعادة نشرها؛ لكن أحدهم لم ينصَعْ للطلب، وأعاد نشرها في غرفة دردشة أخرى تابعة لتطبيق «تويتر»، ومن ثم أخذت في الانتشار في عدد من غرف الدردشة، وعلى قنوات مفتوحة مثل «تلغرام» الروسية ومنصة «فورتشان»، ثم على «تويتر»؛ لا سيما منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى أن تم افتضاح الأمر.
المعلومات التي جاءت في الصحيفة الأميركية مستندة إلى اعترافات اثنين من أعضاء الغرفة الرئيسية في منصة «ديسكورد»، وهما يعرفان جيداً من هو الشخص الذي نشر تلك الوثائق، وأبدى أحدهم إعجاباً بما فعله «أو جي»، واعتبر أن نشر تلك الوثائق حق للرأي العام، ليعرف كيف تُصرف أموال دافع الضرائب المخصصة لأجهزة الاستخبارات. كما فسرا دوافع «أو جي» بشعوره بالاكتئاب، نظراً لقيام بلاده بالتجسس على حلفائها، ولتقاعس أجهزة الأمن عن إفشال عمليات عنف داخلية، على الرغم من توفُّر المعلومات لديها، وتَرْكها تحدث لكي تطالب بمزيد من الأموال.
وفي تعريف أحدهما لـ«أو جي»، أنه أميركي وليس عميلاً، ولا ينتمي إلى أجزاء من شرق العالم، ولن يبلغ عنه. وهو تعريف يؤكد قدراً كبيراً من الثقة في صحة ما قام به «أو جي»، مؤكداً أن هدف نشر الوثائق السرية هو تثقيف المجموعة على الإنترنت.
مثل هذه الاعترافات تضع عملية التسريب في مستوى آخر لا علاقة له بالتجسس التقليدي، أو الخضوع للابتزاز من جهة ما، أو التورط في فعل اضطراري للتغطية على فعل آخر، كما هو شائع لدى أجهزة الاستخبارات. والقصة في مجملها تكشف عن المدى الذي يمكن أن يصل إليه المنتمون للجيل الموسوم بـ«جيل زد»، الأكثر ارتباطاً بوسائل التواصل الاجتماعي، من حيث الخضوع للتقاليد التي باتت تحكم غرف الدردشة وتطبيقات التواصل الاجتماعي، والرغبة الجامحة في استثارة إعجاب الآخرين، من خلال القيام بأفعال غير نمطية تجذب الانتباه، وتوفر لناشر المحتوى شعوراً بالرضا والتفوق والقدرة على توجيه الآخرين، سواء من يعرفهم أو لا يعرفهم. وكما هو معروف، فإن بعض التطبيقات تقدم مقابلاً مادياً سخياً لناشر المحتوى الذي يحقق مشاهدات كثيرة.
وفى غرف الدردشة المحدودة الأعضاء تشكلت تقاليد خاصة، تتعلق بتداول معلومات معينة تهم أعضاء المجموعة، وغالباً ووفقاً لمسوحات ودراسات استقصائية، يكون هناك شخص مميز له مهارات قيادية، يسيطر على عمل ونشاط تلك الغرفة، ويمارس دور قائد الأوركسترا، ويسعى دائماً إلى إثبات قيادته وتفرده لدى أقرانه، بنشر محتوى يصعب على الآخرين الوصول إليه، وهو ما حدث في حالة غرفة الدردشة التي أسسها «أو جي» مع أقرانه المهتمين بالأسلحة، والتي عبَّر عنها أحد مَن قدموا المعلومات إلى الصحيفة الأميركية بقوله: «كان يعرف أشياء قبل أن تحدث».
ما فعله «أو جي» وأقرانه يجسد سلوكيات الجيل «زد» بصورة مثالية. هو الجيل المولود ما بين 1995 ونهاية 2010 الذي يحتل شريحة عمرية ما بين 10 أعوام و25 عاماً، وهي الشريحة التي ينتمي إليها «أو جي» أو جاك تيكسيرا، المتهم بتسريب الوثائق. هذا الجيل يشكل ثلث سكان الكرة الأرضية، وهم الأكثر ارتباطاً وتأثراً بالتطورات الهائلة الجارية في تكنولوجيا الاتصالات والتواصل الاجتماعي العابر للقارات والحدود. وحين يصل هؤلاء إلى العقد الرابع من العمر، فالمرجح أن تطورات تقنية أكثر تعقيداً ستكون جزءاً عادياً من حياتهم اليومية، كالطباعة ثلاثية الأبعاد، والسيارات ذاتية القيادة، وهندسة «النانو»، والروبوتات التي تقوم بأعمال يومية في المنازل وفي الشوارع، كما في المصانع الصغيرة أو الكبيرة، وأيضاً في الجيوش والأجهزة الأمنية.
الدراسات الاجتماعية المعنية بالسلوك الجمعي، تحدد أبرز سمات هذا الجيل، بكونه الأكثر ارتباطاً بشبكة الإنترنت، و60 في المائة منهم لا يبتعدون عن الشبكة أكثر من 4 ساعات يومياً، ومدى التركيز لديهم بين 6 و8 ثوانٍ، ويتعرضون إلى أفكار وسلوكيات تمس وتتداخل مع كل جوانب الحياة، من دون أن يكون لديهم تدريب أو معرفة مسبقة، مما يسهل انجذابهم إلى دروب غير مأمونة العواقب، وهم الذين يفضلون مشاهدة برامج التلفزيون ومقاطع الفيديو والموسيقى والبث المباشر على الإنترنت عبر الهواتف المحمولة، ولديهم ميل للفردية في حياتهم الطبيعية، إلى جانب ميل أكبر إلى التواصل الافتراضي، والثقة العمياء بما يتعرضون إليه من أفكار تنتشر في الشبكة الدولية للمعلومات، ولديهم اهتمام أكبر بمشاركة تجاربهم الحياتية الشخصية مع الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. والذين يتمتعون بقدرات قيادية منهم، عادة ما يميلون إلى المبالغة في الأفعال التي يتصورون أنها تثبت تلك المهارات القيادية، ومعرفتهم بأمور ذات طبيعة خاصة، والميل الشديد لإبداع محتوى غير مسبوق جاذب للانتباه.
مثل هذه الصفات الغالبة لهذا الجيل، أسهمت في تشكيل مفهوم المواطن العالمي الذي يتجاوز الحدود السياسية، ويتشارك مع نظرائه في مختلف المجتمعات في كثير من الاهتمامات حول البيئة والحريات والتطورات القنية الاتصالية المتلاحقة، فضلاً عن متابعة الألعاب الجماعية عبر الإنترنت، وما تسهم به من توليد اتجاهات لدى أبناء الجيل عابرة للحدود ولمنظومات القيم التقليدية في كل مجتمع على حدة.
ومع ذلك، فهو جيل يعاني من مشاعر الوحدة والانعزالية، في الوقت ذاته معرض لمصادر ثقافية متعددة ومتنوعة، ويتسم بالتمسك بالرأي والتسامح المحدود، وتشكيل توجهات فردية على حساب التوجهات الجماعية التي يحتاجها أي مجتمع من أجل التطور ومواجهة التحديات التي تظهر تباعاً. ويمتد الأمر إلى تضارب مشاعر أبناء هذا الجيل تجاه الهوية الوطنية، وأمن الوطن، والتماسك المجتمعي، والعلاقة مع السلطات الحاكمة، كما أنه لا يتأثر كثيراً بمصادر التنشئة التقليدية. كل هذه المتغيرات تجعل عمل المؤسسات بحاجة إلى مراجعات عميقة للغاية.