لا أحد يعرف بالضبط كيف يفكر ماكرون، ولا أحد يمكن أن يفسر هوسه بفكرة الاستقلال الاستراتيجي عن أميركا؛ هذا الهوس أدى في زيارته مؤخرا للصين إلى أزمة حقيقية في العلاقة مع أميركا، وكذلك أزمة داخل الاتحاد الأوروبي. بدأت القصة بتصريحات للرئيس ماكرون لصحيفتين مهمتين قال فيها إن أكبر خطر تواجهه أوروبا أن تجد نفسها محشورة في نزاع بين الصين وأميركا. لم يكتف بذلك، بل أكد أن على أوروبا ألا تتبع أميركا كالأعمى، وطالب بأن تكون أوروبا كتلة ثالثة أو قطبا ثالثا يقف خارج الاصطفاف الصيني الأميركي. هذه التصريحات ليست غريبة عن ماكرون لأنه سبق أن عدّ أن حلف الناتو ميت دماغيا، وأن على أوروبا أن تعتمد على نفسها بعيدا عن أميركا التي لديها أجندتها الخاصة، ومصالحها التي قد تتضارب مع المصالح الأوروبية؛ بمعنى آخر استقلال استراتيجي عن أميركا. هذه الرؤية تعززت إبان عهد الرئيس ترمب، وبعد خروج أميركا المفاجئ من أفغانستان، ويبدو أنها لا تزال تكبر في عقل الرئيس ماكرون الذي يرى نذر حرب قادمة بين الصين وأميركا، ويعتقد أن أوروبا ستجر غصبا لصراع لا «ناقة لها فيه ولا جمل». الناظر إلى هذه الأقوال قد تعجبه للوهلة الأولى، لكن التعمق فيها يدل على قصور نظر، وعلى نرجسية، والأكثر على ضعف كبير في تقدير الواقع السياسي الأوروبي والعالمي.
ينبع قصر النظر من قلبِ الأولويات، بمعنى أن ماكرون بدل أن يجري مباحثات وجولات مع حلفائه الأوروبيين للتوصل إلى سياسة أوروبية موحدة حول الصين وموقفها من تايوان وأوكرانيا والنظام العالمي القائم ثم مناقشتها على طاولة الرئيس الصيني، ذهب بفكرة «الاستقلال الاستراتيجي» التي لا تحظى بقبول أوروبي، فأعطى القيادة الصينية ما تنتظره من انزياح أوروبي عن الموقف الأميركي المتشدد مع الصين؛ فاستراتيجية الصين الجلية هي قطع صلة الوصل بين أوروبا وأميركا، بينما استراتيجية أوروبا التضامن مع أميركا؛ لكن ماكرون بنظريته قدم خدمة جليلة لرئيس الصين بأن أظهر جليا انقسام أوروبا، وعجزها عن إيجاد موقف موحد. ولا شيء يسر قلب القيادة الصينية، التي تتابع بدقة سياسات وتحركات قادة أوروبا وتدرس أدق التمايز والاختلافات بينهم، أكثر من سماع هذه الأقوال، وتعمل على تعزيزها لتحقيق الانفصام بين عدوها الأميركي وأصدقائه الأوروبيين. لذا كان تصريح وزيرة الخارجية الألمانية معبرا عن الانقسام الأوروبي بقولها: إن «أوروبا لا يمكنها أن تكون على الحياد في النزاع بين الصين وتايوان»؛ هذا التصريح يشكل رسالة حازمة لماكرون بأنه أخطأ وعليه التراجع. أما قادة أوروبا الشرقيون الذين يعرفون ماذا يعني التمدد الصيني والتحالف الروسي مع الصين، فعبر عنهم رئيس وزراء بولندا الحالي بقوله:
إن ما نحتاجه ليس «الاستقلال الاستراتيجي بل بناء الشراكة الاستراتيجية مع أميركا». لم تؤيد دولة أوروبية واحدة فكرة ماكرون، ومع ذلك يصر على فكرته.
أما النرجسية فإنها تأتي من قناعته بأن فرنسا إمبراطورية، وتقود أوروبا، وأنه كما هزم نابليون أوروبا فهو قادر على جمع أوروبا حول سياسة واحدة، وبجيش موحد، لكي تلعب دور القطب الثالث؛ لذلك فاوض بوتين مقتنعا أنه سيقنعه بالعدول عن اجتياح أوكرانيا، ومضى بلقاءاته رغم اتهامه بسياسة الاسترضاء؛ هذه النرجسية بالذات تجعله يتصدر أي أزمة تتفجر، فنراه في لبنان بعد انفجار المرفأ، ونراه في ليبيا، ونراه في الساحل الأفريقي؛ ورغم كل هذه التحركات يفشل في لبنان، وينسحب من الملف الليبي، ويعتمد على الحليف الأميركي في الساحل الأفريقي لضمان نفوذه. وتتزامن نرجسيته مع مخاض يعيشه الاتحاد الأوروبي، تعمد فيه دول أوروبية مهمة مثل بولندا ودول البلطيق إلى إعادة قلب موازين القوى داخل الاتحاد الأوروبي ونقله من أوروبا الغربية إلى أوروبا الشرقية، ما سيجعل دور فرنسا أقل تأثيرا، لا سيما أن بريطانيا الأكثر قبولا لدى هذه الدول ترى أن الالتصاق بأميركا قدر لا فكاك منه؛ ورغم ذلك فإن نرجسيته تأبى التراجع، فعمد من تقليل الاعتراض عليه بقوله: أن تكون حليفا لأميركا لا يعني أن تكون تابعا، واستطرد بأن فرنسا أرسلت فرقاطة عسكرية إلى مضيق تايوان، وسفنها تجول المحيطين الهادي والباسيفيكي؛ بعبارة أخرى، فرنسا قادرة إذا ما استمع إليه الأوروبيون أن تجعل الحليف الأميركي تابعا للاتحاد الأوروبي أو على الأقل تجبره على الإصغاء.
أما تقديره للواقع السياسي، وعنوانه «اعرف حجمك» فأي خطأ فيه سيؤدي إلى خسائر فادحة. هذا الواقع يثبت أن أوروبا تحتاج أميركا وليس العكس؛ فحرب أوكرانيا أظهرت فشل التنبؤ الأوروبي بنية الروس، وأظهرت ضعفها عسكريا، لأن الإنفاق العسكري الأميركي على دعم أوكرانيا وصل إلى (77 مليارا) بينما الفرنسي (2 مليار) والبريطاني (9 مليارات) والأوروبي مجتمعا أقل من (32 مليارا)، رغم أن هذه الحرب تخاض على أرض أوروبا. وعندما وقعت أزمة إمدادات الطاقة في أوروبا قفز الأميركيون لإسعافها بملء النقص الذي سببه انسحاب روسيا؛ هكذا اجتاز الأوروبيون شتاء كاد أن يحيل حياتهم جحيما. وقس على ذلك قدرات أميركا الكبرى ماليا واقتصاديا، ونفوذها في العالم. لذلك فإن فكرة ماكرون بأنه يمكنه اللعب على تناقضات الصين وأميركا وتعزيز مكاسب أوروبا اقتصاديا من الصين وعسكريا من أميركا، هي فكرة معطوبة، لأنها تنطوي على قراءة خاطئة لمسار التاريخ؛ بأن إمبراطورية (أميركا) تدافع عن هيمنتها، وقوة صاعدة (الصين) تريد سلبها الريادة.
يذكرنا قصر نظر ماكرون، ونرجسيته، وخطأ تقديره للواقع، بمقولة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بأن «صانعي السياسة الفرنسية لا يرون الواقع بل يتخيلونه»؛ هذا التباين سيقود منطقيا إلى الفشل. ليس عجبا إذن أن نرى ماكرون يقفز في المجهول ظناً أنه الواقع.
8:32 دقيقه
TT
ماكرون وحلم الاستقلال الاستراتيجي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة