ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

المستعمرون والمستشرقون... متى نتوقف عن تدوير الأفكار الضارة؟

قبل أيام شاهدت مقابلة طويلة مع المؤرخ جورج صليبا في البودكاست المتميز «ثمانية». تضمنت المقابلة الجميلة العديد من الأفكار المضيئة، ولكن أيضاً تضمنت نقطتين مهمتين من المهم نقاشهما والرد عليهما.
الفكرة الأولى، قال صليبا، إن فكرة التراجع الحضاري العربي هو فكرة غربية رسّخها المستشرقون عندما طبّقوا رؤيتهم للتاريخ الغربي على التاريخ العربي، ويعني بذلك الصدام بين الفكر المستنير والكنيسة في أوروبا. أو بكلام آخر، يفهم الغربيون مسار التاريخ الأوروبي بالصدام بين العقل والأصولية الدينية.
عندما تغلّبت الأصولية دخلنا في عصر الظلام، وعندما بدأت أشعة العقل تبزغ في القرن الرابع عشر، عصر النهضة، انتصر العلم على الخرافة وانتقلت أوروبا والغرب إلى مرحلة جديدة قادتها إلى ثورة فكرية وصناعية وتقنية غيّرت وجه العالم بالكامل حتى يومنا هذا.
صليبا قال، إن هذا القياس الغربي طُبّق على تاريخ العرب والمسلمين وكان المستشرقون يبحثون عن هذا الصدام بين الدين والعقل ليطبّقوا النظرية ذاتها. وما يريد صليبا أن يقوله باختصار أن هذا قياس خاطئ. وبأن القرون التي نسميها قرون التراجع العربي والإسلامي غير صحيحة، وهناك كتب مضيئة ومهمة ظهرت بعد كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة»، الذي يستشهد به المؤرخون بأنه بوابة الدخول في عصر الظلام عندما حارب الفلسفة والفكر العقلاني (صليبا يدافع عن الغزالي ويقول إنه قال تهافت الفلاسفة وليس تهافت الفلسفة). ما يعنيه أنه لم يكن هناك في التاريخ العربي صدام بين التطرف والانغلاق وبين العقل العلمي والفلسفي على الطريقة الغربية.
هل هذا كلام صحيح؟ هل قياس المستشرقين خاطئ؟ وهل فعلاً لم يكن هناك صدام بين الأصولية والعقلانية في تاريخنا؟ الإجابات عن هذه الأسئلة: لا لا ولا. كلام صليبا غير صحيح وإذا استشهدنا بالحضارة العربية والإسلامية نفسها في أوج ازدهارها كان يسود فيها التفكير العقلاني والفلسفي، ومثّلت حركة الترجمة الواسعة من كل الثقافات علامة أكيدة على الروح المتألقة والمستنيرة.
وفي تلك الفترة تحديداً ظهرت ألمع العقول العلمية والفلسفية، ولا ننسى أن الخليفة المأمون كان عالماً ومثقفاً من طراز رفيع. بدأ عصر الانحطاط عندما تراجع التيار العقلاني وانتصر التفكير الظلامي، تماماً كما حدث في الغرب. النهضة الفكرية والاقتصادية والعلمية مرتبطة بتراجع قبضة الأصولية، هذا ما تعلمناه من دروس التاريخ. وللأسف بسبب سيطرة المتطرفين على الفكر رأينا جماعات مثل «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» التي هي نتاج التفكير الظلامي في قرون سابقة، وليست نتاج فكر أصولي حديث أو ردة فعل على حداثة الغرب كما يقول المبررون. وشهدنا تراجع المستوى الثقافي والأكاديمي في الدول العربية التي يهاجر منها اللامعون إلى الغرب بسبب غياب الحرية الفكرية، وشهدنا انحسار الحركة الفنية والثقافية والأدبية.
وبسبب هزيمة العقلية العلمية وانتصار الخرافة، انهار كل شيء تقريباً. وهناك من يقول، بما أنه ليس هناك كنيسة بالإسلام، فالقياس خاطئ. صحيح أنه لا توجد كنيسة، ولكن يوجد فكر متطرف دموي متجذر في التاريخ والوعي يلعب مثل دور الكنيسة سابقاً. ومؤخراً فقط شهدنا في الخليج تحديداً ازدهار الفكر المستنير والاقتصاد المفتوح على العالم بسبب القيادات القوية المستنيرة التي تحارب التطرف وتدعم الفكر المعتدل المتسامح.
لماذا يقول صليبا هذا الحديث؟ في تفسيري، وقد أكون مخطئاً، لإرضاء نوعية من الجمهور الذي يسمعه ويروق له مثل هذا الحديث. الحط من الغرب والمستشرقين وكتاباتهم ونظرياتهم عن العرب والمسلمين مثل الجرعات المخدرة تعجب المشاهدين والمستمعين، ولكنها تزول سريعاً بعد نهاية الحوار وبعد أن يمسك الشخص هاتفه المحمول أو يركب الطائرة أو سيارته أو يأخذ دواءه، وكلها منتجات غربية تعود جذورها إلى الحرية الفكرية والثروة العلمية منذ قرون. خلط الأوراق في تقديري مضر، خصوصاً عندما يصدر من مفكرين، ويجب أن تكون لدينا صورة واضحة للتاريخ حتى لا نكرر أخطاء الماضي. الإسلام دين عظيم اختطفه لقرون المتطرفون وحوّلوه سلاحاً ضد الفكر والفلسفة والإبداع. تقريباً كما حدث عندما اختطف الأصوليون في أوروبا الدين المسيحي وحوّلوه سلاحاً ضد الفلسفة والإبداع. نفس السيناريو والحل هو نفسه.
النقطة الأخرى التي ذكرها، أن الاستعمار هو سبب تخلف الدول العربية. ويقول صليبا إن الاستعمار زرع في الشعوب فكرة التراجع والتخلف. ولكن كيف يمكن تفسير الاستعمار وقد انتهى من الدول العربية والإسلامية قبل أكثر من نصف قرن؟ رد صليبا، بأن الشعوب تحتاج إلى وقت حتى يخلقوا شخصيتهم متحررين من تأثير المستعمرين.
ولكن إذا صدقنا هذه النظرية، كيف يمكن تفسير نجاح اليابان التي تعرّضت للاحتلال الكامل وليس فقط الاستعمار. وكيف يمكن تفسير ازدهار سنغافورة وهي كانت مستعمرة بريطانية لمدة 144 عاماً، والأمثلة كثيرة. تفسير غير مقنع، وللأسف إنها إعادة تدوير للنظريات الخاطئة التي كنا نعتقد أننا تخلصنا منها، ولكن إعادة الترويج لها من جديد عبر أسماء لها مكانتها يمدها بالحياة عند أجيال جديدة يفترض أن تتخلص بشكل نهائي من إحساس الضحية والمظلومية وتتحمل مسؤولية صناعة مستقبلها.
وكذلك أن تعترف بعيوبها وواقعها وتنتقد ماضيها من دون الانتقاص منه واحتقاره، فكل الشعوب لديها تاريخ له جوانب مضيئة ومظلمة وانتقادها والتعلم منها والاستفادة من الأمم الناجحة هو السبيل الوحيد للتطور.
أما القول إن الاستعمار هو سبب التخلف وإننا لم نمر بصراع بين العقلانية والأصولية، فهي باختصار فكرة غير صحيحة ومضرة. إن أخطر ما يمكن أن نفعله أن نحقن الأجيال الجديدة بأفكار كانت سبباً في فشل الأجيال القديمة.