إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

جلطة هولاند

تلقى ليون كاين اتصالاً في السابعة صباحًا فتمنى لو قذف بهاتفه الجوال في بالوعة الطريق. من ذا الذي يتطفل على نزهته الصباحية المبكرة في شوارع باريس، وفي نهار العطلة؟ نظر إلى الشاشة ليعرف من المتصل ووجد أن النداء آت من «الإليزيه». إن الأمين العام للرئاسة يطلب منه، بصوت شاحب، أن يسرع في الذهاب إلى القصر لأن «الأمر خطير». هل يمكن منح الأصوات لونًا من الألوان؟
لم يكن البروفسور أوليفييه ليون كاين مستشارًا للرئيس هولاند فحسب. إنه واحد من أشهر أطباء الأعصاب في فرنسا والعالم، عدا عن أنه مناضل في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي، وقد كان مستشارًا صحيًا لرئيس الوزراء الأسبق جوسبان. بل إن أسرة الرئيس شيراك قصدته بحثًا عن علاج لاضطرابات الذاكرة التي عانى منها الرئيس السابق. ما الضير في أن يطلع طبيب يساري على محتويات عقل رئيس يميني؟
حين وصل هولاند إلى الحكم، سار على خطى من سبقوه واختار البروفسور ليون كاين مستشارًا للشؤون الصحية. لكن أحدًا من أهل الحكم، طوال تلك السنوات، لم يطلبه بعد أنصاف الليالي ولا في الصباحات الباكرة. لا بد أن الأمر خطير بالفعل. لذلك قطع نزهته وقاد سيارته نحو القصر والتساؤلات تملأ رأسه. ولما وصل وجد الأمين العام ينتظره على العتبة. هل كان للطبيب ألا يلاحظ أن الأمين العام لم يكن قد حلق ذقنه، وأنه كان يرتدي قميصًا مكويًا على عجل؟ إن البروفسور حريص على أن يكون، دائمًا، في كامل أناقته. وقد اعتاد ارتداء البدلة والربطة «البابيون» حتى حين ينزل لشراء الكرواسون من خبازة الحي. ما الخطب؟
قيل له إن جولي استيقظت لتجد أحوال الرئيس على غير ما يرام. من هي جولي؟ أليست المرأة التي يُفترض أن يكون وجودها سرًا من أسرار الدولة؟ لكنه السر الذي يعرفه سبعة مليارات شخص على وجه البسيطة، والكل سمع بقصة حب الرئيس الفرنسي للممثلة جولي غاييه. لذلك سار الأمين العام أمام البروفسور وصعدا درجًا ملتويًا يقود إلى ما يسمى «جناح المدام». وفي الطريق أخبره أنه طلب من «خطيبة الرئيس» أن تعود إلى بيتها وألا تنطق بكلمة لأي كان. كما استدعى الكولونيل المكلف بحماية القصر لكي يقف عند باب مخدع النوم ويمنع دخول أي شخص. لكنه لم يتصل برئيس أطباء «الإليزيه» بعد. فقد يكون الأمر كله وعكة عابرة ناجمة عن صفقة هواء أو سوء في الهضم.
أمام باب الغرفة، كان الكولونيل بيو فارينا يقف بمهابة بطل من أبطال الرياضات الدفاعية. إن ملامحه تعكس تلك الحكمة الشرقية بأن السبل إلى القمة، مهما تعددت، فإن المرء لن يشاهد هناك سوى قمر يبتسم له. وقد رفض الكولونيل أن يسمح للطبيب وللأمين العام بالدخول على الرئيس لـ«إنها الأوامر». ورد الأمين العام بأنه هو صاحب الأمر وليس من المعقول أن يطبقه عليه. وفي نهاية المطاف دخل البروفسور بمفرده، فهو حاضر كطبيب وليس بصفته مستشارًا للرئاسة. وقد وجد هولاند بالبيجاما، جالسًا على حافة السرير يتفرج على التلفزيون بعينين غائبتين. وبعد عشر دقائق خرج من الغرفة، وقال للأمين العام إنها علامات جلطة دماغية ولا بد من نقل الرئيس إلى المستشفى فورًا لإجراء فحوص دقيقة. وهبط الخبر هبوط الكارثة على الأمين. ولا بد من إبلاغ رئيس الحكومة، والأهم حجب الخبر عن وسائل الإعلام.
في عطلة الصيف، تنشر كبريات الصحف الفرنسية مسلسلات وقصصًا لتسلية القراء. ومنها هذه الحكاية التي كتبها روائي باسم مستعار وجاءت من نوع الخيال السياسي. إن فيها بعض الوقائع والأسماء الحقيقية والكثير من توابل الكتابة الأدبية. وقد نشرتها جريدة «الإيكو» الاقتصادية في أربع عشرة حلقة. ولعل أكثرها إثارة تلك التي يعرف فيها القارئ أن جلطة هولاند سببت له نسيان وقائع السنوات الثلاث الأخيرة. وهكذا بات يتعين على الأمين العام للرئاسة أن يخبر الرئيس بأنه كان قد اختار مانويل فالس رئيسًا للوزراء وأن سفراء جددًا جاءوا وذهب آخرون وتوفي من توفي من رؤساء الدول والملوك والزعماء. لا بد من الحفاظ على السر وعدم فضح الفجوة التي في ذاكرة الرجل الذي يحكم فرنسا.
لم يكن نسيان هولاند في خطورة سرطان ميتران. لقد حكم فرنسا لأربعة عشر عامًا وهو يعاني من المرض الخبيث ويكذب على الفرنسيين بخصوص صحته ويزوّر التقارير الطبية. ما الضير في أن يكذب الأطباء مجددًا؟ إن نسيان الوزراء والسفراء ليس بالمشكلة العويصة بل نسيان العشيقة جولي غاييه. وهي عندما دخلت عليه، في المستشفى، لاحظت تبدلاً في معاملته لكنها وجدته ألطف من السابق.
لا أميل إلى لعبة «هم ونحن». لكن المقارنة تفرض نفسها بين «كسر الهيبة» المتاح في الغرب وما هو مسموح به للصحافيين والروائيين في بلادنا. والأمر لا يتعلق بالتسلل إلى حياة رئيس الجمهورية واستلهام حكايات مسلية منها بل غياب التقليد الذي يقضي بنشر بيانات دورية عن الوضع الصحي للرؤساء. إن الرعية تود أن تطمئن على سلامة راعيها.