الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

أين الفلسطينيون في مظاهرات إسرائيل؟

عندما كتبت هنا، بعد تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو التي وصفت بأنَّها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل، أنَّها «حكومة للصدام»، لم أكن أتوقع أن يصل الأمر إلى انتقادات واسعة لهذه الحكومة من أصدقاء إسرائيل حول العالم، تضاف إلى حالة الاحتقان الداخلي التي نتجت عن دخول وجوه إليها من خارج مؤسسة الحكم التقليدية. لقد سمعنا انتقادات سابقة أميركية وأوروبية لسياسات إسرائيل المتعلقة بتوسيع الاستيطان، وتجاوزات جيشها في عملياته العسكرية ضد الفلسطينيين، لكن الأمر وصل الآن إلى حد تدخل حكومات غربية في قرارات داخلية للحكومة الإسرائيلية، كما فعلت الإدارة الأميركية التي طالبت بتغيير قوانين «الإصلاح» القضائي التي اقترحتها الحكومة، ليرد أحد وزراء نتنياهو على بايدن بالقول: «لسنا نجمة أخرى على العلم الأميركي». وكذلك فعلت حكومات غربية انتقدت تصريحات وزير المال الإسرائيلي، التي قال فيها إنه «لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني» (سبقته غولدا مائير إلى هذا «الاكتشاف»)، ووصفت تلك الحكومات تصريحات الوزير سموتريتش بأنها غير مسؤولة.
جاءت هذه المواقف الخارجية المنتقدة لنتنياهو ووزرائه لتعزز احتجاجات المعترضين الإسرائيليين، ولتعمّق الشرخ الداخلي الذي قال عنه رئيس إسرائيل إسحاق هرتزوغ بأنه يدفع إسرائيل إلى حافة الحرب الأهلية. لم يكن في تعبير هرتزوغ أي مبالغة. فقد تجاوز الانقسام العميق في المجتمع الإسرائيلي، مسألة الخلاف التقليدي بين متدينين وعلمانيين، أو بين يهود من أصول أشكينازية وسفارديمية، أو بين يمينيين ويساريين، وبلغ الانقسام الآن درجة الخلاف على هوية الدولة؛ هل هي دولة يحكمها القانون، أم هي دولة ديكتاتورية تتيح للخارجين على القانون أن يتصرفوا وفق ما تمليه مصالحهم، ويعمدوا إلى تعديل القوانين والتضييق على سلطة القضاء لمنعه من ملاحقتهم؟ ويزيد من حدة هذا الانقسام أن بعض هؤلاء الخارجين على القانون هم الآن في موقع السلطة، وزراء في حكومة نتنياهو، بعدما كانوا مدانين وملاحقين من قبل القضاء بمخالفات وارتكابات، تتراوح بين تهم الفساد (كما في حالة نتنياهو نفسه ووزير الداخلية أرييه درعي) أو بالعنصرية ودعم الإرهاب (كما هو وضع إيتمار بن غفير الذي كان من مؤيدي اغتيال رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين، كما دعم الإرهابي الذي ارتكب مجزرة ضد مصلين في المسجد الإبراهيمي في الخليل سنة 1994).
غير أن شجاعة المتظاهرين الإسرائيليين ضد محاولات نتنياهو والمتطرفين من أعضاء حكومته لتطويق سلطة القضاء تبقى محصورة بالدفاع عن حقوق المجتمع اليهودي في إسرائيل، وبالدفاع عن الصورة التي تحرص إسرائيل أن تقدمها عن نفسها إلى أصدقائها في العالم على أنها «واحة الديمقراطية» في منطقة الشرق الأوسط. وهي الصورة التي تعرضت للتشويه بعد المواجهات الأخيرة، فانتقد كثيرون من حلفاء إسرائيل خطط نتنياهو وحكومته لتقليص سلطة القضاء والتدخل في تعيين القضاة، وكانت إدارة الرئيس جو بايدن على رأس المنتقدين، كما أثارت القرارات الإسرائيلية استياء كثيرين من اليهود الذين يقيمون في دول غربية، ويعرفون الأثر السلبي لمثل هذه الإجراءات على علاقة إسرائيل بالدول التي يقيمون فيها، والتي تتردد حكوماتها في الدفاع عن دولة يرتكب المسؤولون فيها مثل هذه التجاوزات المخالفة للقوانين ويبقون من دون عقاب. وكان لافتاً على سبيل المثال حجم المظاهرات التي نظمها اليهود البريطانيون خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها نتنياهو إلى لندن، وطالبوا الحكومة البريطانية بالضغط عليه للتراجع عن قراراته.
بكلام آخر، تبقى الانتقادات الموجهة إلى نتنياهو والمتطرفين في حكومته في حدود سعي المتظاهرين للدفاع عن حقوق اليهود في إسرائيل، فهم لا يتطلعون، إلا نادراً، إلى ما ارتكبته هذه الحكومة منذ تشكيلها، كما فعلت حكومات سابقة، بحق الفلسطينيين، سواء في البلدات والمخيمات الفلسطينية أو في قطاع غزة، ومؤخراً في بلدة حوارة، التي لم تُسمع في إسرائيل سوى أصوات قليلة ارتفعت لإدانة الاعتداء الذي حصل على أهلها وإحراق بيوتهم على يد المستوطنين، الذين كانوا يحظون بحماية قوات الأمن الإسرائيلية، وذلك في الوقت الذي ارتفعت فيه الانتقادات الدولية لما جرى في تلك البلدة والمطالبات بمحاكمة المسؤولين عن ارتكابها. هنا يقتصر ميزان العدالة الذي يطالب به يهود إسرائيل على حماية حقوقهم، ولا يشمل حقوق الفلسطينيين أو مصالحهم، ولا حقوق مواطني إسرائيل من الفلسطينيين الذين يشكلون خُمس السكان. هؤلاء لا يتوقعون من القضاء الإسرائيلي سوى التمييز ضدهم، سواء تعلق الأمر بقرارات توسيع المستوطنات أو هدم البيوت أو إقرار قانون «القومية اليهودية»، الذي يجعل الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل مواطنين من الدرجة الثانية.
حتى قرار نتنياهو بالموافقة على خطط إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي تشكيل قوة من «الحرس الوطني» لحماية المستوطنين ومواجهة الفلسطينيين في قراهم وبلداتهم، لم يستحق أي اهتمام من جانب المتظاهرين الإسرائيليين، رغم أنه سيشكل غطاء لاعتداءات المستوطنين، في ظل إدارة بن غفير الذي يعتبر أن كامل الضفة الغربية يجب أن يكون ضمن أراضي إسرائيل.
لذلك يشعر الفلسطينيون الذين يقيمون في إسرائيل أن هذه الاحتجاجات لن تغير شيئاً من أوضاعهم. ما يهمهم من الاحتجاجات هو إنهاء الاحتلال وإلغاء قانون القومية اليهودية والتمييز ضد المواطنين العرب، كما عبّر النائب أيمن عودة خلال لقاء وفد من النواب العرب مع الرئيس الإسرائيلي. وكلها مطالب لا تتطرق إليها المظاهرات اليهودية التي تهدف إلى حماية إسرائيل... من نتنياهو.