ريتشارد بوكستابر
TT

موجة مد وجزر بطيئة تستنزف الاقتصاد

من الواضح أن النماذج الاقتصادية تخذلنا؛ لأنها لا تعكس القوى الكبيرة التي بدأت بالفعل في التأثير على الاقتصاد الأميركي: التغييرات المناخية والعوامل الديموغرافية، والعولمة والذكاء الصناعي.
نحن نعايش اقتصاداً متأرجحاً؛ إذ ارتفعت أسعار الغازولين بشدة، ثم عادت لتستقر عند مستوى أقل. كما تراجع معدل التضخم للسيارات المستخدمة، ثم تسارع بمعدل 40 في المائة، قبل أن ينكمش بمعدل قياسي. كما تحول قطاع الإسكان من الازدهار إلى الركود، ثم الازدهار مجدداً. واليوم، يقف الخبراء الاقتصاديون عاجزين عن سبر أغوار هذه المؤشرات.
وقد حاول الخبراء الاقتصاديون، من جانبهم، التعامل مع الضغوط المزدوجة المتمثلة في التضخم والركود خلال سبعينات القرن الماضي دونما نجاح، والآن ها نحن هنا بعد خمسين عاماً والكثير من جوائز «نوبل» في الاقتصاد، لم نبرح مكاننا بعد.
من جهتهما، دعم البنك الفيدرالي ووزارة الخزانة القطاع المصرفي في أعقاب أزمة عام 2008. والآن، بعد خمسة عشر عاماً، نجد هذا القطاع يتهاوى من جديد.
ولا تقتصر غرابة الوضع على ذلك، وإنما نتجه اليوم نحو أزمة جديدة، ونقف أمام موجة مد وجزر بطيئة الحركة تبدو في طريقها لإغراق الاقتصاد خلال العقود القادمة، وأقصد هنا التغييرات المناخية وعوامل ديموغرافية والعولمة والذكاء الصناعي. ومن المتوقع أن تتراوح تأثيرات هذه العناصر ما بين إحداث تحول في النظام الاقتصادي وخلق تهديد وجودي للحضارة. وتبدو المخاطر أمام الاقتصاد، واستقرار المجتمع والحضارة هائلة إذا لم نسارع للتأهب لمواجهة ما هو قادم.
على صعيد المناخ، نعاين اليوم بالفعل لمحة مما هو آتٍ: موجات جفاف وفيضانات وعواصف أشد تطرفاً بكثير عن الأعوام القريبة الماضية. وقد عاينا بعض التداعيات خلال العام الماضي، مع تعطل سلاسل الإمداد، جراء جفاف الأنهار بشدة على نحو أثر على حركة الشحن، وتعرض جهود توليد الطاقة الكهرومائية للتعطيل.
على صعيد الاعتبارات الديموغرافية، نجد أن معدلات المواليد في تراجع داخل الدول المتقدمة. على سبيل المثال، تشهد الصين انخفاضاً في عدد سكانها، في حين حققت كوريا الجنوبية أدنى معدل مواليد على الإطلاق على مستوى الدول المتقدمة. ومثلما الحال مع التغييرات المناخية، تحدد التحولات الديموغرافية الأخرى الاجتماعية، مثل فرض ضغوط على العقد الاجتماعي بين القوى العاملة وكبار السن.
كما نشهد اليوم تحولاً في مسار العولمة القائم على امتداد الأعوام الـ40 الماضية نحو الاتجاه المعاكس، مع تداعي الصلات والروابط داخل شبكتنا الجيوسياسية والاقتصادية. وستعمل جميع القوى الجيوسياسية الكامنة خلف تفكيك العولمة على مضاعفة الضغوط التي تخلقها التغييرات المناخية والتحولات الديموغرافية، الأمر الذي سيشعل منافسة محتدمة على الموارد والمستهلكين.
وبإمكاننا اليوم رؤية إرهاصات تداعيات التغييرات المناخية والتحولات الديموغرافية وتفكك العولمة. ونعاين بالفعل مخاطر على صعيدي العمل والخصوصية، وتقدماً مخيفاً على صعيد الحرب.
والمتوقع أن تتسارع وتيرة هذه المخاطر وتأثيراتها علينا خلال العقود القادمة. ولا تبدو النماذج الاقتصادية القائمة قادرة على طرح توقعات صائبة بخصوص مسارات هذه القوى الوجودية.
والمشكلة هنا ليست أن النماذج الاقتصادية لدينا لا تعمل على الإطلاق، وإنما يبدو أنها مفيدة فقط عندما تكون الأوضاع بسيطة ومستقرة، وعندما نكون في وضع مستقر وتتوافر لدينا أطنان من البيانات السابقة لنعتمد عليها... وتكمن المشكلة الحقيقية في أن هذه النماذج لا تعمل عندما يكون الاقتصاد في حالة من الغرابة، وهذه تحديداً اللحظة التي نكون في أمسّ الحاجة فيها إلى عمل هذه النماذج بفاعلية.
وقد اعترف الخبراء الاقتصاديون أنفسهم بهذا الأمر. على سبيل المثال، في ذروة الأزمة المالية عام 2008، تساءل الكثيرون حول لماذا أخفق الاقتصاديون في توقع حدوث هذه الأزمة. وجاءت الإجابة واضحة من جانب عالم الاقتصاد الحائز جائزة «نوبل»، روبرت لوكاس: علم الاقتصاد أخفق في توقع أزمة 2008؛ لأن النظرية الاقتصادية أقرت أنه ليس باستطاعتها التنبؤ بمثل هذه الأزمات.
ويتمثل سبب رئيس وراء إخفاق النماذج الاقتصادية أوقات الأزمات، في أنه ليس بإمكانها التعامل مع عالم مليء بالتعقيدات أو التحولات المفاجئة. على سبيل المثال، تتولى النماذج الرياضية تحليل عنصر تمثيلي - سواء أكان فرداً أم شركة - وتفترض أن الاقتصاد الكلي سيتصرف على النحو ذاته. والمشكلة هنا، والمشكلة كذلك مع الأنظمة الواسعة المعقدة والديناميكية، أن الكل لا يبدو مثل مجموعة العناصر. مثلاً، إذا كان حولك مجموعة من الأفراد يجرون في كل اتجاه، فإن الصورة بالمجمل يمكن أن تبدو مختلفة عما يفعله كل عنصر من عناصر الصورة.
يخال الاقتصاديون أنفسهم قادرين على وضع نماذج رياضية لطرح حلول للعالم الاقتصادي، لكننا لسنا نظاماً ميكانيكياً، وإنما نحن بشر نبتكر ونبدل تجاربنا. وفي إطار تحليله لأزمة انهيار الأسواق عام 1987، أوضح العالم الفيزيائي ريتشارد فينمان، أن المشكلة التي تواجه الاقتصاديين أن الجزئيات الفرعية لا تتصرف على النحو الذي تظن أنَّ باقي الجزئيات الفرعية تنوي التصرف تبعاً له، لكن البشر يفعلون ذلك.
اليوم، نسير باتجاه عالم لم نرَ مثله من قبل، ولا يمكننا توقع جميع السبل التي ربما تؤثر علينا من خلالها التغييرات المناخية، أو إلى أين سيأخذنا تفكيرنا المبتكر مع الذكاء الصناعي، الأمر الذي ينقلنا بدوره لما يطلق عليه الشكوك الراديكالية، في إشارة إلى موقف ليس لدينا أي مفاتيح تعين على فهمه، وحيث نفاجأ بأمور لم نعتقد يوماً أنها موجودة من الأساس.
ويتجلَّى هذا الوضع فيما يخص توقع المخاطر طويلة الأمد. والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن التعامل مع مخاطر نعجز عن تعريفها؟ تتمثل بداية طيبة في التحرك بعيداً عن العناصر المعتادة التي يركز عليها الخبراء الاقتصاديون والقائمة على العقلانية، والنظر بدلاً عن ذلك في أمثلة من العالم نجت من فترات سادتها حالة من الشكوك الراديكالية.
لننظر إلى الصراصير، مثلاً، فقد نجحت في النجاة من مئات ملايين السنوات تحولت خلالها الغابات المطيرة إلى سافانا، ثم تحولت السافانا إلى صحاري. ربما لا تكون كائنات جميلة ولافتة، لكن تظل الحقيقة أنها أبلت بلاءً حسناً بنجاتها في ظل عالم تعمل داخله تغييرات راديكالية.
اليوم، نعاين تحول السافانا إلى صحاري، ما يخلق أمامنا حاجة لبناء توجه يكفل لنا النجاة، بحيث يمتاز بقدرة كبيرة على التكيف. الحقيقة أن آفاقنا المستقبلية قد تبدو أكثر إشراقاً إذا ما تصرفنا مثل الصراصير. ربما تهيمن حشرة على درجة كبيرة من التكيف مع الغابات، على الصراصير داخل هذه البيئة، لكن بمجرد تبدل العالم واختفاء الغابة، ستختفي معه تلك الحشرة هي الأخرى.
* خدمة «نيويورك تايمز»