جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

الصورة والحقيقة

من طبيعة الصور الفوتوغرافية أن تكون أحياناً خادعة فيما تتركه من انطباع لدى الرائي. الابتسامات التي تبدو مشرقة في الوجوه، وتثير إعجاب المرء، عادة ما تكون مصطنعة، وللاستهلاك العام، ويتبدى ذلك بوضوح في الصور التي تجمع بين الخصوم من أهل السياسة. والصورة التي رأيتها صدفة، منشورة بإحدى الصحف الأميركية مؤخراً، تعود إلى تاريخ قديم نسبياً، إلا أنها تتوفر فيها كل متطلبات وشروط الخداع. ولولا أنها كانت مصحوبة بتقرير إخباري أماط عنها اللثام وكشف ما ظل خافياً وراء ابتسامات من كانوا بها، لكنتُ بلعتُ الطعم.
الصورة باللونين الأبيض والأسود، تعود ربما إلى أوائل فترة الستينات من القرن الماضي، تُظهر امرأة أوروبية الملامح والزي، تبدو في النصف الثاني من العشرينات من عمرها، أو ربما أقل، بوجه طفولي ينضح براءة، وتضيئه ابتسامة آسرة. ترتدي بنطال «جينز» مشدوداً إلى الجزء السفلي من جسدها، يبرز تفاصيل ساقين لا تنقصهما إثارة. وعلى الجزء العلوي ارتدت قميصاً خفيفاً مخططاً، يشي بأن الوقت صيف. وتحتذي حذاء رياضياً. وتبدو، في الصورة، وكأنها نجمة سينمائية، أو سفيرة نوايا حسنة للأمم المتحدة، تزور منطقة فقيرة، أو منكوبة، في بلد شرق أوسطي، عربي على الأرجح، يمكن تخمينه بسهولة من خلال أطفال ظهروا في الصورة يحيطون بها، بوجوه صهدتها حرارة الشمس، يرتدون أسمالاً بالية.
واستناداً إلى التقرير المرفق، فإن المرأة كندية الجنسية، من أب يهودي الديانة وأم نصرانية، واسمها سيلفيا رافائيل، تعمل مصوّرة صحافية مع وكالة أنباء فرنسية، وكانت وقتذاك في مهمة صحافية في بلد عربي فقير، كلفت بها من قبل الوكالة. يرافق تلك الصورة مجموعة صور أخرى لها، في مهام صحافية عديدة، في عدة بلدان عربية أخرى. إحداها في معسكر لحركة «فتح» مخصَّص لتدريب شباب المقاومة الفلسطينية، وأخرى مع زعيم عربي يستقبل زعيما عربياً آخر جاءه زائراً.
الصور المرافقة للتقرير أفرجت عنها الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية، المعروفة اختصاراً باسم «الموساد»، بناءً على طلب من شخصين إسرائيليين يمتلكان صالة للمعارض الفنية، بغرض عرضها للجمهور، باعتبارها أعمالاً فنية تستحق المشاهدة. وأما سبب وجود الصور لدى «الموساد»، فإن التقرير يوضح أن المرأة الجميلة تلك في المركز من الصورة، كانت، آنذاك، واحدة من أهم عملائهم في المنطقة وأخطرهم. ورغم أنها ليست يهودية الديانة؛ كونها من أم نصرانية، فإنها جاءت إلى إسرائيل للعمل في التدريس، وأقامت في مدينة تل أبيب، لأنها كانت متحمسة لدولة العدو الصهيوني. وهناك تم تجنيدها، وتدريبها لمدة عامين كاملين. ولم تكن مصوّرة، لكن من خلال التدريب تبين أنها موهوبة في فن التصوير. وبناء على ذلك، تم تدبير وظيفة لها مع وكالة إعلامية فرنسية متخصصة في الشؤون الإخبارية الدولية. وقامت الوكالة بدورها بإرسالها في مهام عديدة إلى دول عربية، من المستحيل، وقتذاك، على إسرائيلي دخولها!
جهاز «الموساد» لم يفرج إلا عن عدد محدود من الصور، واحتفظ بأغلبها لما تحويه من أسرار ومعلومات أمنية. أما السؤال حول الإفراج عن الصور في هذا الوقت، فهذا ما لم يتعرض له التقرير، وما لا أملك له إجابة.
الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد. بقية التفاصيل في التقرير توضح أن تلك المرأة تورطت في أعمال اغتيالات ضد صحافيين فلسطينيين في بيروت، من خلال إرسال طرود بريدية. وقُبِض عليها في النرويج لتورطها مع فريق من عملاء الموساد في عملية اغتيال بالنرويج كانت تستهدف أحد القادة الفلسطينيين. لكن العملاء أخطأوا وقتلوا شخصاً آخر. وقبضت السلطات النرويجية على كامل الفريق، ونشرت صورهم. وهناك فقط عرف العالم أن سيلفيا رافائيل ليست مصورة صحافية، بل عميلة في جهاز «الموساد».
جواز السفر الكندي، والصفة الصحافية، والعمل في وكالة إخبارية فرنسية معروفة، فتحت بوابات الحدود المغلقة أمام عميلة «الموساد» لتصور مواقع وشخصيات وتنقل معلومات مهمة، في وقت كان دخول إسرائيلي إلى تلك البلدان أكثر استحالة من دخول جمل في سم خياط.
عقب انتفاضة فبراير (شباط) 2011 في ليبيا، أسندت إلي رئاسة القسم الإعلامي بالسفارة الليبية - لندن. وكنا نستقبل طلبات من وكالات أنباء، وصحف، وقنوات تلفزيونية، من مختلف بلدان أوروبا، بل وحتى من أميركا، لصحافيين يعملون بها، بغرض الحصول على تأشيرات لدخول ليبيا للقيام بتغطية إعلامية للأحداث. الطلبات كانت مرفوقة بالسير الذاتية للصحافيين وصورهم. وبدورنا، كنا نرسل تلك الطلبات إلى الجهات الرسمية في ليبيا للحصول على الموافقة بمنح تأشيرات دخول. ولم يكن في ليبيا أجهزة مخابرات متخصصة، عقب انهيار النظام السابق. لذلك، منحنا تأشيرات لصحافيين بلا عدد.
عقب قراءتي للتقرير عن سيلفيا رافائيل، رجعت بي الذاكرة إلى تلك الفترة. وأعترف الآن، بعد تفكير فيما كان يحدث، بأن أغلب مَن مُنحوا التأشيرات، حينذاك، ربما كانوا لا يختلفون عن سيلفيا رافائيل.
لكن، في النهاية، للدولة أجهزتها في كشف مَن ينتحلون صفات ووظائف ليست لهم، لأن ذلك يُعدّ جرماً في كثير من القوانين الخاصة بكل دولة.