نعوم تشومسكي- إيان روبرتس - جي واتومول
TT

الوعد الزائف لتطبيق «تشات جي بي تي»

كتب خورخي لويس بورخيس ذات مرة، أنَّ العيش في زمن المخاطر الكبرى والوعد هو معايشة وتجربة للمأساة والملهاة في آن واحد، مع «دنو واقتراب كشف وتجلٍّ» يتعلق بفهم أنفسنا والعالم. إنَّ ما حققناه اليوم من تقدم ثوري مزعوم في مجال الذكاء الصناعي بالتأكيد سببٌ لكل من القلق والتفاؤل. سبب التفاؤل هو أن الذكاء وسيلة يمكننا حل مشاكلنا من خلالها، أما القلق فمبعثه هو خوفنا من أن يمتهن النوع الأكثر شهرة ورواجاً من الذكاء الصناعي، وهو تعلم الآلة، علمنا ويشوه أخلاقنا من خلال دمج مفهوم معيب بشكل أساسي للغة والمعرفة في التكنولوجيا التي نستخدمها.
تعدّ تطبيقات الدردشة والمحادثة «تشات جي بي تي» من شركة «أوبن إيه آي»، و«بارد» من شركة «غوغل»، و«سيدني» من شركة «مايكروسوفت»، من أعاجيب تعلم الآلة؛ إذ يمكنها بوجه عام استيعاب مقدار هائل من البيانات والبحث عن أنماط فيه، وكذلك قادرة على أن تصبح أكثر براعة في توليد وإنتاج مخرجات مرجحة إحصائياً، على نحو يشبه لغة وفكر البشر ظاهرياً. تم الاحتفاء بتلك البرامج باعتبارها الوميض الأول في أفق الذكاء الصناعي العام، وتلك اللحظة المتنبأ بها التي تتفوق فيها العقول الآلية على عقول البشر، ليس فقط على مستوى الكمّ فيما يتعلق بسرعة المعالجة وسعة الذاكرة، بل أيضاً على مستوى الكيف فيما يتعلق بالبصيرة الفكرية، والإبداع الفني، وكل الصفات الأخرى التي تميز البشر.
ربما يأتي هذا اليوم، لكن فجره لم يبزغ بعد، على عكس ما تحمله عناوين الأخبار الطنانة، وتتكهّن به الاستثمارات الحمقاء. لم يتحقق كشف بورخيس الخاص بالفهم، ولن يتحقق، ولا يمكن أن يتحقق، إذا استمرت برامج تعلم الآلة مثل «تشات جي بي تي» في الهيمنة على مجال الذكاء الصناعي. رغم نفع تلك البرامج في بعض المجالات الضيقة؛ إذ يمكنها أن تكون نافعة في برمجة الكمبيوتر على سبيل المثال، أو اقتراح بعض قوافي الشعر الخفيف؛ نعلم جيداً من علم اللغويات وفلسفة المعرفة أنها تختلف بشكل عميق عن كيفية استخدام البشر للعقل واللغة. تضع تلك الاختلافات قيوداً كبيرة على ما يمكن لتلك البرامج أن تقدمه وتقوم به، وتجعلها مشفرة بعيوب متعذرة الاستئصال.
من المضحك والمحزن في الوقت ذاته، ربما كما كان بورخيس سيشير، أن يتم توجيه هذا القدر الكبير من المال والاهتمام إلى هذا الأمر الصغير، الذي يعد تافهاً عديم الأهمية إذا ما قورن بالعقل البشري، الذي يمكنه باستخدام اللغة، على حد تعبير فيلهلم فون همبولت، «استخدام وسائل محدودة على نحو لا محدود»، وإبداع أفكار وتأليف نظريات ذات طابع عالمي.
على خلاف تطبيق «تشات جي بي تي»، وما شابه من برامج، العقل البشري ليس محركاً إحصائياً متثاقلاً يبحث عن تطابق بين الأنماط، ويقتات على مئات التيرابايت من البيانات، ويستنبط الرد المرجح في محادثة، أو ربما الإجابة المرجحة عن سؤال علمي؛ على العكس من ذلك، يعدّ العقل البشري نظاماً كفئاً بدرجة مذهلة وبديعاً وراقياً يعمل بقدر صغير من المعلومات، ولا يسعى وراء استنباط صلات عمياء بين نقاط من البيانات، بل يقدم تفسيرات وإيضاحات.
على سبيل المثال، يقوم طفل صغير يتعلم لغةً ما، على نحو لا واعٍ وتلقائي، وباستخدام قدر ضئيل من البيانات، بتطوير قواعد نحوية ونظام معقد من المبادئ والمعايير المنطقية. يمكن فهم هذه القواعد النحوية كتعبير عن «نظام تشغيل» فطري مثبّت وراثياً يمنح البشر القدرة على إنشاء جمل معقدة وسلاسل طويلة من الأفكار.
إنَّ تلك البرامج عالقة حقاً في مرحلة تطور فكري سابق للبشرية، فأعمق عيوبها هو الافتقار إلى أهم ملكة من ملكات الذكاء، وهي ليست فقط معرفة الحال، وما كانت عليه، وما سوف تكون عليه؛ أي الوصف والتوقع، بل أيضاً ما ليس عليه الحال، وما يمكن ولا يمكن أن تصبح عليه الحال. إن تلك هي العناصر المكونة للتفسير والإيضاح، وعلامة وأمارة الذكاء الحقيقي.
فيما يلي مثال على ذلك؛ فلنفترض أنك تمسك بتفاحة، وتركتها تسقط من يديك، فأنت تلاحظ النتيجة وتقول: «التفاحة تسقط»، وهذا يعدّ وصفاً. ربما يكون التوقع هو قول: «سوف تسقط التفاحة إذا فتحت يدي». كلا التعبيرين صحيح، لكن التفسير شيء أكبر من ذلك؛ إذ لا يشمل الأوصاف والتوقعات فحسب، بل يمتد ليتضمن أيضاً تخمينات لم تحدث في الواقع، مثل «أي شيء مثل هذا قد يسقط»، إلى جانب العبارة الإضافية: «بسبب قوة الجاذبية»، أو «بسبب درجة انحناء الزمكان»، أو أياً ما كان. التفسير السببي للأمر هو: «ما كانت التفاحة لتسقط لولا قوة الجاذبية»، وهذا هو التفكير.
المشكلة المحيرة بالنسبة إلى تعلم الآلة هي الوصف والتوقع؛ فالآلة لا تفترض أو تقترح أي آليات سببية أو قوانين فيزيائية مادية. بطبيعة الحال لا يكون أي تفسير بشري الطابع صحيحاً بالضرورة، فنحن معرّضون للخطأ، ولسنا معصومين منه، لكن هذا جزء من معنى التفكير، فحتى تكون على صواب، يجب أن يكون هناك احتمال لأن تكون مخطئاً؛ إذ لا يتكون الذكاء من التخمينات الإبداعية فحسب، بل أيضاً من النقد الإبداعي. يقوم الفكر بشري الطابع على التفسيرات المحتملة، وتصويب الخطأ، وهي عملية تقيد تدريجياً الاحتمالات التي يمكن النظر فيها بشكل عقلاني. وكما قال شارلوك هولمز للدكتور واطسون: «عندما تستبعد المستحيل، لا بد أن يكون الأمر المتبقي، أياً ما كان، ومهما كان غير مرجح، هو الحقيقة».
على نحو غير صحيح، يبدو أن بعض المتحمسين لتعلم الآلة يفخرون بقدرة ابتكاراتهم على تقديم توقعات «علمية» صحيحة، مثل حركة الأجسام المادية، من دون الاستعانة بالتفسيرات. مع ذلك هذا النوع من التوقع، حتى حين يكون صحيحاً ناجحاً، هو مجرد علم زائف، في حين يسعى العلماء وراء وضع نظريات معززة بالبرهان والتجربة، مثلما أشار الفيلسوف كارل بوبر قائلاً: «نحن لا نسعى وراء نظريات مرجحة بدرجة كبيرة، بل وراء تفسيرات؛ أي نظريات قوية وغير مرجحة بدرجة كبيرة».
إن النظرية القائلة إنَّ سبب سقوط التفاح على الأرض هو أن ذلك مكان التفاح الطبيعي، بحسب رأي أرسطو، محتملة، لكن هذا يثير المزيد من الأسئلة، مثل: لماذا تكون الأرض هي مكانه الطبيعي؟ النظرية القائلة إن التفاح يسقط على الأرض لأن الكتلة تحني الزمكان (الزمان المكاني)، بحسب رأي أينشتاين، غير مرجحة بدرجة كبيرة، لكنها توضح فعلياً سبب سقوط التفاح. يتجلى الذكاء الحقيقي في القدرة على التفكير والتعبير عن أمور غير مرجحة، لكنها تتضمن بصيرة وبعد نظر. الذكاء الحقيقي قادر أيضاً على التفكير الأخلاقي؛ ويعني ذلك تقييد الإبداع اللامحدود لعقولنا بمجموعة من المبادئ الأخلاقية، التي تحدد ما يجوز وما لا يجوز، وإخضاع تلك المبادئ ذاتها بطبيعة الحال للنقد الإبداعي. حتى يكون «تشات جي بي تي» مفيداً، يجب تمكينه من إنتاج مُخرج يبدو جديداً مستحدثاً، ويكون مقبولاً لأكثر مستخدميه؛ إذ يجب أن يبتعد عن المحتوى المستنكر والمستهجن أخلاقياً. مع ذلك يجد مبرمجو «تشات جي بي تي»، وغيره من أعاجيب تعلم الآلة، صعوبة، وسوف يظلون يواجهون تلك الصعوبة، في تحقيق هذا النوع من التوازن.
يمكن القول بإيجاز، إن برنامج «تشات جي بي تي»، وغيره من البرامج المشابهة، غير قادرة على تحقيق التوازن بين الإبداع والتقييد؛ فهي إما تبالغ في عملية التوليد والإنتاج، سواء تضمن ذلك تقديم حقائق أو أكاذيب، مع دعم قرارات أخلاقية ولا أخلاقية على حد سواء، أو تقوم بعملية التوليد والإنتاج بشكل محدود؛ إذ تبدي عدم التزام بأي قرارات من دون مبالاة بالعواقب. بالنظر إلى انعدام البعد الأخلاقي، والعلم الزائف، وعدم الكفاءة اللغوية لتلك الأنظمة، لا يسعنا سوى الضحك أو البكاء على رواجها وشعبيتها.

* خدمة «نيويورك تايمز»