جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

أسكوتلندا تدخل مرحلة ما بعد ستورجن

المقولة التي تؤكد أن الضربة التي لا تقتلك تقوّيك، لا تصمد كثيراً لدى النقاش. وفي رأيي، فإن الضربة المعنية قد تؤدي أحياناً إلى إصابة المضروب بإعاقة مؤقتة أو دائمة، ومن المؤكد أنها، في أغلب الأحيان، تؤدي إلى تقوية الخصم.
وهذا يقودنا إلى الضربة التي أصابت القوميين الاسكوتلنديين يوم الأربعاء الماضي، وعلى نحو مفاجئ وغير متوقع، باستقالة زعيمة الحزب ورئيسة الحكومة المحلية السيدة نيكولا استورجن، حيث لا يتوقع لها أن تكون سبباً في نهاية الدعوة الانفصالية عن الاتحاد البريطاني. ومن غير المحتمل كذلك، أن تقوّي الانفصاليين الاسكوتلنديين في القريب العاجل. ويقيناً، أن قيادات وكوادر الحزب القومي الاسكوتلندي يحتاجون بالضرورة إلى فترة من الوقت، فيما يشبه استراحة محارب؛ لاستيعاب ما حدث وكيف حدث بتلك السرعة. وخلالها، تتاح لهم فرصة مراجعة استراتيجيتهم لتحقيق الاستقلال. وربما يحتاجون قبل ذلك إلى إعادة تعريف ما يقصدونه بالاستقلال.
المعركة في بريطانيا بين أنصار بقاء اسكوتلندا في الاتحاد البريطاني، وأنصار انفصالها لم تنتهِ بعد، ولا أظن، عقب استقالة استورجن، أنها ستنتهي في المستقبل القريب. لا أحد من الطرفين بقادر على إنهاء الآخر. قد يقول قائل إن الضربة التي تلقاها القوميون الاسكوتلنديون في عام 2014، بفشلهم في الاستفتاء على الاستقلال قوّتهم، وأعادتهم إلى الساحة أكثر وحدة وتصميماً على تحقيق الهدف، تحت قيادة السيدة استورجن. وهو قول صحيح، لكن خروج نيكولا استورجن، ترك فراغاً قيادياً لا يمكن ملؤه من قبل قيادات الحزب القومي الاسكوتلندي الحالية. لا أحد منهم يحظى بمواهبها السياسية، وشخصيتها الكاريزمية.
عقب خسارتهم معركة الاستفتاء على استقلال اسكوتلندا عام 2014. كانت السيدة استورجن، مَن أعاد رفع الراية الاستقلالية عالياً، وضخ الأمل من جديد في نفوس الانفصاليين الاسكوتلنديين، وقادتهم بسرعة إلى ميدان المعركة مجدداً، ليحققوا أكبر نصر انتخابي في عام 2015، مكّنهم من الاستحواذ على أغلبية غير مسبوقة في البرلمان المحلي، وأكثر من 50 مقعداً في برلمان وستمنستر، وقادت الحكومة المحلية، في واحدة من أصعب الفترات التاريخية، ونجحت في قيادة حملة مكافحة الفيروس الوبائي «كورونا». لكنها قررت فجأة ترك الساحة، وعلى نحو غير متوقع، معترفة بعدم قدرتها على مواصلة ما بدأته من مشوار سياسي، بهدف تفكيك الاتحاد البريطاني، وتحقيق حلم اسكوتلندا المستقلة.
ذلك الحلم راوغها، وأفلت منها، كما تفلت فريسة من فخاخ صياد. الطريق إلى الحلم / الاستقلال، لم تكن مفروشة زهوراً، بل مليئة بالمطبات والعوائق الدستورية والسياسية. قضاة المحكمة العليا في إدنبره، حكموا في العام الماضي، باستحالة قيام الحكومة المحلية الاسكوتلندية بإجراء استفتاء ثانٍ على الاستقلال، من دون موافقة الحكومة البريطانية. والحكومة البريطانية قالت إنها لا توافق على إجراء استفتاء أحادي الجانب على استقلال اسكوتلندا، ورفضت كل الدعوات لإجراء استفتاء آخر؛ لأن الفترة التي تفصله عن الاستفتاء الأول قصيرة زمنياً. وكل الحلول المطروحة كانت تصطدم بجدران صلبة، وتعيد القوميين إلى المربع الأول. آخرها كان مبادرة السيدة استورجن، بمثابة آخر سهم في الجراب الانفصالي.
المبادرة تقوم على الالتفاف على المطبات القضائية والسياسية، بجعل الانتخابات النيابية القادمة ما أطلقت عليه وصف «استفتاء أمر واقع» على الاستقلال. وفي حالة تمكّن الحزب القومي الاسكوتلندي من الحصول على أكثر من 50 في المائة من أصوات الناخبين الاسكوتلنديين، يكون تصويتاً بالأمر الواقع على خروج اسكوتلندا من الاتحاد البريطاني. إلا أن المبادرة لم تلقَ دعماً سياسياً من قيادات الحزب.
ومن طبيعة الحركات الانفصالية أن تهديدها يزداد حدّة في أوقات، ويقلّ في أوقات أخرى. الأمر يتوقف على الظروف السياسية في المركز. والتهديد الممثل في الحزب القومي الاسكوتلندي الانفصالي وسعيه إلى تحقيق استقلال اسكوتلندا عن الاتحاد البريطاني، لا يختلف عما وصفنا. وفي فترة زعامة السيدة استورجن، كان التهديد الانفصالي على أشُده، وظلت السيدة استورجن خنجراً في خاصرة كل رئيس حكومة بريطانية. ووضع الحزب، في مرحلة ما بعد السيدة استورجن، يتوقف على الكيفية التي يتعامل بها قادته مع الوضعية الجديدة. وهناك احتمال بعودة الانقسامات إلى صفوف الحزب، كما كان الوضع إبّان حقبة الزعيم السابق أليكس سالموند.
بمجرد الانتهاء من إعلان السيدة استورجن الاستقالة، بدأت وسائل الإعلام البريطانية في التكهن بمن سيتسلم الراية الانفصالية من بعدها، ويواصل السير بالحزب نحو تحقيق الاستقلال.
أسماء عديدة ظهرت لشخصيات بارزة في الحزب وأخرى أقل وزناً. في حين أن السيدة استورجن رفضت التدخل في عملية اختيار الزعيم الجديد، أو دعم مرشح بعينه.
ومن جهة أخرى، ومن ضفة مقابلة، بدأت تتصاعد دعوات من لندن وإدنبره، بضرورة انتهاز الاتحاديين الفرصة، واستقطاب الأنصار لبقاء اسكوتلندا في الاتحاد. كما أن التقارير الإعلامية بدأت في الحديث عن إمكانية تمكن حزب العمال من تحقيق نصر انتخابي كبير في اسكوتلندا خلال الانتخابات النيابية القادمة. استقراءات الرأي العام في اسكوتلندا أخيراً تشير إلى انخفاض شعبية الحزب القومي، وارتفاع نسبة المؤيدين لبقاء البلد في الاتحاد.